كانت الساعة تشير إلى الخامسة عصراً عندما باغتت صواريخ الاحتلال الغزيين الآمنين وأحالت عطلتهم الأسبوعية الصيفية الهادئة إلى جحيم، فطالت شققا سكنية آمنة وأوقعت سكانها بين شهداء وجرحى.
حملت الساعات الأولى للعدوان المستمر على غزة رائحة دماء الطفلة الشهيدة آلاء عبد الله قدوم التي اخترقت صواريخ الاحتلال جسدها الغض وحرمتها اللعب مع أقرانها للأبد.
جرح دامٍ
لم يكن الوجع الذي انتشر في بيت عائلة قدوم مقتصراً عليهم بل نثرت طائرات الاحتلال الألم في بيوت عدة على امتداد قطاع غزة في ضربات جوية متزامنة واكتظت المستشفيات بالشهداء والجرحى وآلاف المواطنين الذين جاؤوا يودعون أحبابهم أو يتفقدون جرحاهم.
وكان على رأس هؤلاء الشهداء قائد سرايا القدس في المحافظات الشمالية تيسير الجعبري الذي انتشر مقطع فيديو له وهو يحث جنوده على أن يعيشوا ونصب أعينهم هدف واحد ألا تسقط المقاومة في غزة مهما كان الثمن.
وكما كانت الصدمة شديدة على رفاق الشهيد الجعبري فإنها كانت أكثر وطأة على ابنه البكر محمود الذي كان لتوه قد عاد في إجازة أكاديمية حيث يدرس الطب في مصر يستحث الخطى للارتماء في حضن أبيه الذي لم يره منذ عامين. لكن المخاوف من عدوان إسرائيلي جعلت والده يختفي عن الأنظار فلم يتمكن من رؤيته واحتضانه إلا شهيدًا مسجى على نعشه، فكانت ملامح الصدمة ظاهرة بشكل واضح على محياه وهو يودعه إلى مثواه الأخير.
"حياة لا تستحق"
استغرق المواطنون في غزة عدة ساعات لكي يدركوا أن ثمة عدوانا جديدا يستهدف كل من يتحرك منهم دون سابق إنذار فعادت مشاهد الدمار والتخريب التي لم تكن قد فارقت مخيلاتهم بعد، فلم يمضِ سوى عام واحد على معركة "سيف القدس" التي استهدف فيها الاحتلال المدنيين العزل بشكل همجي.
فكانت الشهيدة الشابة دنيانا العمور إحدى ضحايا ذلك العدوان المستمر حيث ارتقت بقصف مدفعي استهدف منطقة سكنها، ليوقف مشروع فنانة شابة شهدت على بصماتها كلية الفنون الجميلة في جامعة الأقصى، ولتصدق مقولتها الأخيرة على صفحتها على "الفيسبوك": "هذه الحياة لا تستحق أن تؤخذ بتلك الجدية العالية... أظنها لا تستحق سوى نظرة باردة ثم نمضي".
وكعادة الاحتلال الجبان فإنه انطلق لدك بيوت الآمنين وحرمانهم من مأواهم كما فعل مع عائلة شملخ التي دمر بيتها المكون من ثلاثة طوابق، رغم أن مالك المنزل مزارع ليست له علاقة بأي أعمال للمقاومة، يَأوي في بيته عائلة أحد أقربائه الذين فقدوا بيتهم خلال العدوان الإسرائيلي على غزة العام الفائت!
ذهول وصدمة
وعلى مقربة من بيت شملخ تضررت بيوت عدة منها بيت لسيدة مسنة وزوجها المقعد، ولديها في المنزل أربعة أبناء من ذوي الاعاقة، عبرت للصحفيين عن ذهولها وصدمتها لاستهداف الاحتلال لمنطقتها بشكل مباغت.
فلم يمهلوا الأسر في المنطقة سوى دقائق لإخلائها، لم تستطع خلالها سوى أن تنادي الشباب لحمل زوجها المريض على أكتافهم، تقول: "أخذت أجري دون وعي ورغم أن قدمي يوجد بداخلها بلاتين لكن الذعر الذي تملك نفسي كان أكبر من المرض".
مشاهد هدم البيوت، كما حرمت العائلات من مأواها فإنها حرمت آخرين من رزقهم كما حدث مع مستأجر لمحل تجاري في عمارة سكنية لعائلة خليفة أحالها الاحتلال إلى ركام ففقد مصدر رزقه فتناقل الإعلام فيديو له وهو ينتحب من البكاء إذ إن الحصول على فرصة عمل في القطاع المحاصر هو أمر شبه مستحيل.
وامتد الوجع عندما أودت صواريخ الاحتلال بحياة المسنة أنعام أبو كتيفة وهي تتجهز لزف ابنها عريساً لتزف بدلا من ذلك شهيدة وينقلب الفرح إلى بيت عزاء يرثيها وينزف حسرة.
معايشة مختلفة
وإن كان ما يحدث مع أهل غزة ليس التجربة الأولى مع آلة القتل الإسرائيلية التي تستهدف البشر والحجر، فإن وقع التجربة تلك كان مختلفاً على أهل الضفة الغربية الذين كانوا يتابعون بالعادة مثل تلك الأحداث عبر شاشات التلفزة.
فقد عبر عن ذلك الصحفي فادي عاروري الذي يشهد العدوان الحالي في غزة حيث أتاها زائرا قبل أيام ليبين على صفحته بشبكة "فيسبوك" أن معايشة العدوان مختلفة تماماً عن السماع عنه، وليعرب في ذات الوقت عن امتنانه للغزيين الذين انهالت عليه رسائلهم واتصالاتهم تعرض عليه المبيت في بيوتهم، فرغم إدراكهم أن لا مكان آمن في البقعة الساحلية الضيقة فإنهم يخشون عليه أن يعايش العدوان وحيدا دون عائلته.
ولم يترك هذا العدوان المستمر بيتا في غزة إلا وطاله الألم، فإن لم يوقع فيه شهيداً أو جريحاً فإنه يحرم أهله راحة البال ويحيل حياتهم لجحيم ويدب الرعب في قلوب أطفالهم على وقع الغارات الإسرائيلية المتتالية التي تستهدف كل المناطق في القطاع، ويشرد الكثيرين من بيوتهم.