انطلق محمد إلى عمله في الشارع ذاته الذي يقع فيه البيت وترافقه دعوات السلامة، في حين انشغلت والدته وزوجات أبنائها كلٌّ في شقته السكنية في أداء الأعمال المنزلية المعتادة من ترتيب وتنظيف وإعداد الطعام إلى حين عودة الغائبين من أشغالهم، وبينما هم كذلك إذا بمحمد يعود لاهثًا مصفر الوجه يخبرهم بكلمات متقطعة "اخلو البيت بسرعة بدهم يقصفوه".
لا تستطيع "أم محمد" خليفة وصف الأجواء التي سادت البيت في حينه، "الكل صار يجري ويصرخ، وكل واحد يحاول إنقاذ نفسه، فلم يسمح الاحتلال الإسرائيلي بمدة كافية للخروج".
وتضيف: "لم نستطع جلب الاحتياجات الضرورية من ملابس أو حتى الهاتف المحمول، أو العلاج والدواء، أو حتى أي أوراق ثبوتية، وبالكاد استطعنا النجاة بأنفسنا قبل أن تباغتنا صواريخ الطائرات الحربية".
تقول خليفة (62 عامًا): "أنا صاحبة مرض، حيث إنني أعاني مرضَي السكري وضغط الدم، فكيف لهذه اللحظات المرعبة أن تمر دون أن تؤثر سلبيًاّ فيّ، خاصة أني لم أتوقعها يومًا، فليس لنا أي علاقة بأي حزب أو فصيل".
وتمضي إلى القول: "خرجت بملابس الصلاة فقط حتى دون أن أحمل علاجي؛ ما يؤثر في صحتي خاصة في مثل تلك الحادثة".
وعن تلك اللحظات، تخبر بأن ابنها محمد عاد إلى البيت عند الساعة الحادية عشرة صباحًا، حيث تم إخبار الجيران بضرورة إخلاء البيوت تمهيدًا لقصف بيتنا، وبعد حالة الهلع والخوف التي ملأت قلوبنا تركنا الاحتلال مدة ساعتين ننتظر مصير البيت، حيث عملت طائرة حربية إسرائيلية على تدميره بصاروخين في تمام الساعة الواحدة.
وتعيل خليفة بجانب أبنائها وأحفادها البالغ عددهم عشرة أفراد، ثلاثة آخرين من ذوي الإعاقة من ذات العائلة ولكنهم يتامى الأب والأم، "وخلال إخلاء المنزل نسينا أحدهم بداخله من شدة الخوف، ولكن أحد أبنائي عاد لإخراجه قبل قصف البيت".
وتشير إلى أن المنزل الكائن في شارع أبو حصيرة غرب مدينة غزة بناه زوجها، قبل وفاته، على مساحة 220 مترًا مربعًا، وهو مكون من ثلاثة طوابق، وقد حوله الاحتلال إلى ركام وشرد ساكنيه قبل الانتهاء بالكامل من تشطيبه وتجهيزه، فيما ألحق القصف المدمر أضرارًا جسيمة بمنازل الجيران المجاورة وأثاثهم.
وبصوت تخنقه الدموع، تردف أم محمد قائلة: "أبنائي ليس لديهم عمل دائم، ونعتمد في تلبية احتياجاتنا اليومية على إيجار الحواصل التي يتم تأجيرها".
تصمت ثم تكمل: "النار مولعة بقلبي، تعب وشقا السنين راح بلمح البصر، كنا نعيش في بيت آمن ليش نوصل لهيك حالة"، متسائلة عن سبب قيام الاحتلال باستهداف الآمنين في بيوتهم؟
حال يرثى لها
وكذلك قلب نور زوجة ابنها، إذ تتحسر على الحال التي آلت إليه عائلتها بعد قصف الاحتلال المنزل، فحتى هذه اللحظة لا تعرف ما الذي حدث! وكيف خرجت من البيت مرتدية ملابس الصلاة، حاملة معها أحد الأطفال الذي كان يجلس لا يدري ما الذي يحصل أو يدور حوله، "خرجت حافية القدمين من شدة الخوف"، صمتت ثم تابعت حديثها: "ربنا ما يدوقها لأحد".
تضيف: "أصبحنا مشتتين، ليس لنا أي مكان يؤوينا، نجلس في بيوت أقاربنا لا نعرف المدة التي سنمكثها عندهم".
وأكثر ما يؤلم قلب نور أنها ذهبت في صبيحة اليوم التالي للبيت المقصوف في محاولة منها للبحث عن بعض الاحتياجات الضرورية من ملابس أو غيرها، لكنها لم تستطع، فكل ما في البيت قد تحول إلى ركام لا يمكن استصلاح أي شيء منه.
وتلفت إلى أن زوجها وأشقاءه لم ينتهوا بعد من سداد الديون المتراكمة عليهم من جراء استكمال تجهيز البيت، فقبل بدء العدوان بأيام قليلة فقط انتهوا من طلائه، مبينة أن الاحتلال لا يكترث لتلك الظروف الاقتصادية الصعبة التي تمر بها العائلات في قطاع غزة، ويتعمد استخدام سياساته المعتادة في العدوان باستهداف المدنيين الآمنين في منازلهم وشققهم السكنية التي طفحوا الدم حتى يعمّروها.
وفي اليوم الثاني للعدوان، شرع الاحتلال بقصف عدد من المنازل، إذ دمر منزلين غرب مدينة غزة يعودان لعائلتي شملخ وخليفة؛ ما تسبّب في تدميرهما كليًا.
ووفق المكتب الإعلامي الحكومي، تسبب القصف بتدمير 9 بنايات سكنية، وإلحاق أضرار بقرابة 1500 وحدة سكنية.