كثر الحديث في هذه الأيام عن ضرورة إنهاء الانقسام، وتحقيق المصالحة الفلسطينية، للخروج من حالة الجمود السياسي في الساحة الفلسطينية بوجه خاص، وتراجع القضية الفلسطينية بوجه عام، وقد انعكست هذه الأمور سلبيا على حياة المواطنين في الضفة الغربية وقطاع غزة، واللاجئين الفلسطينيين في الشتات، بسبب حالة الانقسام السياسي والجغرافي بين أكبر فصيلين فلسطينيين: حماس، وفتح ومعها سلطة رام الله التي تغذيها لوجستيا.
من جديد خرجت للسطح مبادرة سياسية جديدة أطلق عليها اسم "مبادرة الإنقاذ الوطني"، وقعت عليها 67 شخصية فلسطينية، في مقدمتهم عضو اللجنة المركزية السابق، المفصول من حركة فتح، ناصر القدوة، لإنهاء الانقسام، وإعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني وإعادة توحيده، وإعادة بناء المؤسسات الفلسطينية، وخاصة منظمة التحرير، من خلال مجلس وطني جديد عماده الانتخابات العامة، وإنهاء الانقسام، واستعادة الوحدة، وتشكيل حكومة جديدة. ومما طالبت به المبادرة ضرورة التزام الفصائل ومكونات الشعب الفلسطيني بالحوار.
هذه المبادرة واحدة من عدة مبادرات طرحت لإنهاء الانقسام وإنهاء حالة الفراغ السياسي والقانوني (الشرعية) في الحالة الفلسطينية، فكلنا يعلم أن ملف الانقسام الذي مضى عليه أكثر من عقد ونصف العقد، وقد خاضت فيه الفصائل الفلسطينية جولات وصولات كثيرة، وقد توصلت إلى توقيع اتفاقات ووثائق وتفاهمات وحوارات عديدة من خلال وساطات محلية وعربية ودولية من أجل إنهائه، لكنها مع الأسف الشديد لم تكلل بالنجاح، وقد ذهبت كلها أدراج الرياح، أذكر من هذه الاتفاقات التي وقعتها الفصائل: وثيقة "الوفاق الوطني" في عام 2006، وإعلان صنعاء 2008، واتفاقية المصالحة في القاهرة 2011، و2017، وإعلان الدوحة 2012، وإعلان الشاطئ 2014، وحوارات موسكو 2019، وتفاهمات إسطنبول عام 2020، وأخيرًا حوارات الجزائر التي لم تستكمل في عام 2021".
ولا ننسى دعوة الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون، في الأيام القليلة الماضية لاستضافة الفصائل الفلسطينية من أجل إنهاء الانقسام وتحقيق المصالحة، وقد جمع بين الرئيس عباس ورئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، في لقاء ثلاثي للتقارب بين الأشقاء، وبدء صفحة جديدة على طريق المصالحة الوطنية، فجاء رد حركة حماس على هذه المبادرة الجزائرية على لسان رئيس الدائرة السياسية لحركة حماس في إقليم الخارج سامي أبو زهري، بأن حركته لا تضع أي شروط لتحقيق المصالحة الفلسطينية وهي منفتحة على أي بدائل تمكننا من تجاوز الخلاف الفلسطيني وإصلاح منظمة التحرير لمشاركة كل الفلسطينيين وإجراء انتخابات.
ما طرحته حركة حماس يصب في مصلحة القضية الفلسطينية بطي صفحة الانقسام السوداء والشروع في المصالحة الحقيقية، وفي المقابل جاء رد الرئيس عباس بعقد اجتماع للمجلس المركزي لمنظمة التحرير، وقد استحدث مناصب لشخصيات من فتح مثل حسين الشيخ وروحي فتوح ومحمد مصطفى، مع العلم أن هذا الإجراء مخالف للقانون الأساسي الفلسطيني، وألحق الضرر بمنظمة التحرير، وعمّق الانقسام، وأحبط المبادرة الجزائرية، ومن ثم فإن النتائج المترتبة عليه لاغية وباطلة. وبناء عليه فقد أجلت المبادرة الجزائرية إلى أجل غير مسمى، لعدم الجدية في التعاطي مع المبادرة الجزائرية، رغم حيادية الموقف الجزائري من الفصائل الفلسطينية.
لا شك أن مبادرة الإنقاذ الوطني جاءت متأخرة، لكن لعلها تأخذنا إلى بر الأمان، وتكون فعلا إنقاذا للوضع الفلسطيني المتردي للغاية بسبب الانقسام، وقد ألم بالنظام السياسي الفلسطيني برمته، الذي يفقد شرعيته بشكل متسارع لعدة أسباب، أبرزها: عدم عقد انتخابات رئاسية منذ 2005، وانتخابات تشريعية منذ 2006، وإلغاء الانتخابات التشريعية والرئاسية التي كانت مقررة في 2021، وتدهور المؤسسات، وإحكام سيطرة الفرد، وتراجع أسس الحكم الرشيد، والانتهاكات المنهجية للحقوق والحريات الأساسية، وتغييب القانون، وانتشار الفساد وتدهور الظروف المعيشية.
ثمة اختلافات عميقة جداً بين حركة فتح وبقية الفصائل، التي تطالب غالبيّتها بإعادة ترتيب البيت الفلسطيني، وإنهاء حالة التفرد في القرار الرسمي، والتوافق على ميثاق وطني جديد، وبرنامج سياسي قائم على القواسم المشتركة، وإجراء الحوار الوطني وتنفيذ نتائجه على أرض الواقع، وهذا يتطلب توافقًا وطنيًا واسعًا، مع الالتزام بالديمقراطية وأسس الحكم الرشيد، وأهمها إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية واحترام نتائجها للخروج من مأزق الانقسام وتحقيق المصالحة الوطنية.