منذ أبصرت عينا جمال زيد الدنيا وهو لا يعرف له ولعائلته مسقط رأس سوى قريته "أم الريحان" الواقعة جنوب غرب مدينة جنين، لكن منذ اغتصب الاحتلال الإسرائيلي أرض فلسطين وهو يحاول بكل الطرق دفعهم لترك قريتهم والرحيل منها، للاستيلاء على أرضها ذات الأهمية الإستراتيجية بالنسبة لهم، لذلك حولوا القرية لسجن صغير لا يمكن لأحد الدخول أو الخروج منه إلا بإذنهم.
ولم يكتفِ الاحتلال بإجبار زيد على ترك وظيفته الحكومية في مجال الصحافة بسبب صعوبة التنقل من وإلى القرية بل يحاربه اليوم في مصدر رزقه "فقاسات الدجاج" وسلمه إخطارات بالهدم وهو يجول في أروقة محاكم الاحتلال منذ عام 2008م.
يقول: "قريتنا من أقدم القرى في فلسطين، ويثبت ذلك وجود آثار رومانية فيها، ونحن كعائلة نعيش فيها من زمن أجدادنا، لا نعرف أرضاً لنا غيرها، ولكن الاحتلال الإسرائيلي يحاول بكل الطرق دفعنا لتركها".
ويؤكد زيد تمسك أهل القرية بأراضيهم ويقينهم بأن ثباتهم فيها هو ما يحول دون استيلاء الاحتلال على تلك الأراضي، "تعرضنا لمختلف أنواع الضغوط والإغراءات لترك أرضنا، عرضوا علينا مبالغ خيالية لشراء أراضينا لكننا رفضنا".
وبعد أنْ تجشّم الصعاب في عمله الصحفي لكون الخروج والدخول للقرية أمراً ليس بالسهل إطلاقاً بل يحتاج لإذن سابق من قبل الاحتلال، ما دفعه إلى تركه، والعمل في تربية الدجاج ضمن "فقاسات" أعدت لهذا الغرض لكن الاحتلال لم يتركه في حاله.
ويضيف: "فوجئنا بإخطارات هدم لـ"البركسات" ومنذ 2008م ونحن نجول في المحاكم الإسرائيلية لمحاولة وقف الهدم، ودفعنا مبالغ طائلة لأجل ذلك دون جدوى".
وفوجئ زيد قبيل أربعة أشهر بقرار هدم لـ"الفقاسات" التي يمتلكها هو وأربعة من أشقائه بحجة أنها غير مرخصة، رغم أننا منذ 14 عاماً ونحن نطلب الترخيص دون فائدة!".
هذه "الفقاسات" تُعيل 16 عائلة ستفقد مصدر رزقها إذا ما تم هدمها، "هم يريدون أرضاً بلا مواطنين، هذه سياستهم المعهودة في كل فلسطين المحتلة".
ولا تقف المعاناة في "أم الريحان" عند المحاربة في مصدر الرزق بل تطال جميع مناحي الحياة، فـ"زيد" أبٌ لأربعة طالبات جامعيات، وهو يعاني منذ سنوات في تنقلهن من الجامعة وإليها، "كنتُ أرافقهن يومياً لفتحة في "جدار الفصل العنصري" المحيط بالقرية ويخرجن من هناك للجامعة، وبعدها يعانين معاناة شديدة في الحصول على مواصلات فكنت أتصل بمكتب "تاكسيات" لنقلهن".
فـ"بوابة الاحتلال" الموجودة على مدخل القرية تُفتح غالباً في الساعة السابعة صباحاً ووفق "مزاج جنود الاحتلال" الذين يتحججون بحجج مختلفة لإبقائها مغلقة، منها أنهم في ذات المرات قد أضاعوا المفتاح فأضاعوا على الطلاب والموظفين دوامهم!
لاحقاً تنبه جنود الاحتلال للفتحة في الجدار فأغلقوها، ما اضطر زيد للاستئجار لبناته الأربع في نابلس ما أثقل كاهله بمصاريف إضافية، "كل الحياة هنا معاناة، فالتعليم والمرض وكل شؤون الحياة صعبة، يريدون أن نمل ونترك أرضنا لكننا لن نفعل ذلك مهما فعلوا".
في حين يبين رئيس المجلس القروي وأحد أبناء القرية مجدي الكيلاني بأن القرية تعاني كثيراً لوقوعها خلف جدار الفصل العنصري، "فنحن معزولون عن الضفة الغربية وممنوعون من دخول (إسرائيل) رغم أنه لا يفصلنا عن مدينة أم الفحم سوى خمسة دقائق بالسيارة".
ولا تقف معاناة القرية عند هذا الحد؛ فهي محاطة بمستوطنات، منها: "حنانيت"، "شاكيد"، "ريحان" و"تل مناشة" ومناطق صناعية إسرائيلية من كل الجهات، "فلا يُسمح لأي مواطن من القرية فوق 16 عاماً بالتنقل عبر بوابة يقيمها الاحتلال على مدخل القرية إلا ببطاقة يحصل عليها من الإدارة المدنية للاحتلال ويتم تجديدها كل أربع سنوات".
هذا الحصار الذي تعيشه القرية أثّر سلبيًّا على الموظفين والطلاب الجامعيين من أبنائها الذين يُضطرون للتنقل عبر المعبر، "كما فقد أبناء القرية عملهم في الزراعة بسبب نشر الاحتلال للخنازير فيها منذ عام 2000م، ويمنع المواطنين من الاقتراب منها أو قتلها، فهي تتجول بكل حرية، وتلتهم أي مزروعات للمواطنين حتى أضحت الزراعة ليست مصدراً للدخل".
وتمتد المعاناة لأبسط تفاصيل الحياة، فلا يمكن إدخال أي شيء للقرية كالأجهزة الكهربائية أو مواد البناء إلا بتنسيق مسبق مع الجنود على الحاجز "حاجز طورة"، ويستدرك زيد بالقول:" لكن التنسيق لا يعني أن كل شيء على ما يرام، فقد يفاجئك جنود الاحتلال بما لم تتوقعه، فقد حرمونا في القرية في هذا العيد من الأضاحي رغم التنسيق المسبق، ففي آخر لحظة رفضوا إدخال المواشي التي اشتراها أهل القرية".
وذلك ينسحب على كل تفاصيل الحياة، فأهل القرية محرومون من مشاركة أقربائهم خارجها في مناسباتهم السعيدة والحزينة حيث ليس من السهل بمكان حصولهم على تصاريح دخول، ما يُضطر أهالي القرية للخروج لقرية طورة الغربية والشرقية لإقامة أفراحهم وبيوت العزاء.
يشار إلى أن قرية أم الريحان الواقعة جنوب غرب مدينة جنين تعيش أوضاعاً معيشية قاسية، من جراء عزلها بين "جدار الفصل العنصري" شرقاً وما يسمى "الخط الأخضر" غرباً.
وأصبحت القرية في عزلة عن محيطها الخارجي، وتحيط بها في هذا الشريط المعزول عدة مستوطنات، ابتلعت آلاف الدونمات من أراضي القرية والقرى المجاورة، وينعم مستوطنوها بحرية الحركة والتنقل والاستيلاء على أراضي المواطنين والاعتداء على أصحابها، فيما يحرم أصحاب الأرض من أبسط حقوقهم التي تنتهك يومياً من قبل سلطات الاحتلال والمستوطنين على حدٍ سواء.