أوقفها مفتشو السلطة على معبر الكرامة، الذي يربط الضفة الغربية بالأردن، في أثناء عودتها لرام الله بعد زيارة عائلية، وفتشوها جسديًّا، ودقّقوا في حقائبها، وألقوا عمرها البالغ خمسة وستين عامًا وراء ظهورهم، فلم يكترثوا لمرضها وقلة حيلتها، وعدم مقدرتها على المشي، ولا لتاريخها المقاوم، فهي والدة الاستشهادي رامز أبو سليم، ليحتجزوها ساعتين، ويُحقّقوا معها بشأن مبلغ 450 دينارًا قدمه لها أبناء عمومتها "نقوطًا لبناتها".
انتهى مفتشو المعابر من تحقيقهم، ليسلّموها ورقة استدعاء لدى مخابرات السلطة في رام الله.
أخبرها أحد الضباط أن "تستريح الأحد"، على أن تذهب الإثنين لمقر المخابرات للاستدعاء.
صباح أمس الإثنين، ذهبت الستينية غالية أبو سليم برفقة شقيقتها، واستقلتا سيارة أجرة، بداية استغرب السائق من وجهة السيدتين المُسنّتين نحو مقر "المخابرات"، معتقدًا أنهما في زيارة عائلية لمكان مجاور للمقر.
ظلّ السؤال يُحيّر السائق بعدما سمع أطراف الحديث بين الشقيقتين عن ورقة استدعاء، فكسر صمته بسؤالٍ: "خالتي، ليش رايحة على المخابرات؟"، فضحكت قبل أن تجيبه: "عندي استدعاء". لم يستوعب الأمر وهو ينظر لتجاعيد وجهها وتقدُّمها في العمر، ثم استاء كثيرًا عندما علم أنها والدة استشهادي وتُعامَل هكذا، تمامًا كما ساد الاستياء الرأي العام الفلسطيني، وعبّر عنه الكثيرون على مواقع التواصل الاجتماعي، مؤكدين أنّ ذوي الشهداء والأسرى هم خطٌّ أحمر، رافضين كل محاولات أجهزة أمن السلطة لإذلالهم.
بعدما قطعت أم رامز كل هذه المسافة، ووصلت لداخل المقر، بكل برود أبلغوها بتأجيل الاستدعاء إلى يوم الخميس القادم، وكأنها في جلسة محاكمة، يعدّها ابنها المحرر صائب أبو سليم "إهانة وإذلالا" لأمه المسنة.
مسنة ووالدة استشهادي
يقول أبو سليم لصحيفة "فلسطين" بنبرة صوت غاضبة: "أمي مريضة ولا تتحمل الذهاب والعودة، حتى أنها تعاني من جراء المشي، أشفق عليها السائق وأوصلها لباب مقر المخابرات"، مشيرًا إلى أنّ والدته ذهبت لزيارة بناتها في الأردن بعد خمس سنوات، وجلبت معها بعض "النقوط" السبت الماضي.
يعلق على التحقيق معها في انتماء ابنها الشهيد رامز عام 2003 بعد احتجازها ساعتين، قائلًا: "أخي الشهيد معروف بانتمائه لكتائب القسام، وهو شهيد منذ نحو عقدين، فلماذا يطرح السؤال بعد كل هذه المدة؟".
وأكد أنّ "التحقيق واستدعاء ذوي الشهداء والأسرى مرفوض لكل حر في الشعب الفلسطيني لأنهم خطٌّ أحمر، وأي أم شهيد هي أمٌّ للشعب الفلسطيني، وستبقى للشهيد رمزية يجب أن يكرّمها الجميع عليها، بدءًا من معاناة أمه بفقد فلذة كبدها، ثم تحمّلها عذابات التهجير وهدم منزلها عقب العملية وتشرُّدها، لتأتي السلطة لتكافئها".
وتساءل بعفوية وغضب في صوته: "وين ما راحت بغلبوها، مع إنه صحتها ما بتتحملش، فهل هذا تكريم للشهداء؟".
والشهيد أبو سليم، نفذ عملية استشهادية في عام 2003، تزامنت مع عملية استشهادية أخرى نفّذها ابن عمه الشهيد إيهاب أبو سليم في معسكر صرفند لجيش الاحتلال، ارتقى على إثرها الاثنان شهيدين.
اتصال من رقم خاص
في قصة أخرى.. استغربت منى البرغوثي من تكرار اتصال رقم خاص بهاتفها، وهي عادة لا تردّ على أرقام غريبة، فأعطت الهاتف لزوجها الذي تفاجأ بصوت ابنه همام أبو حسين المعتقل منذ عدة أيام لدى جهاز المخابرات برام الله، يطلب منه القدوم هو وأمه للجهاز، وأنهم يريدونهما في خمس دقائق للتوقيع على تعهد قبل الإفراج عنه.
تقول منى البرغوثي وهي كاتبة فلسطينية وزوجة محرر لصحيفة "فلسطين" عن تفاصيل ما جرى معها: "ذهبت مع زوجي الساعة العاشرة صباحًا، لكنني بقيت في السيارة وذهب زوجي داخل المقر، فاتصل ابن شقيقتي الذي رافقنا من هاتفه يطلب مني النزول من السيارة، وإلا سيعتقلون زوجي وابني إذا لم أذهب".
دخلت البرغوثي إلى غرفة التحقيق لكنها رفضت الحديث معهم دون وجود زوجها معها، وكذلك رفضت الجلوس على الكرسي إذا لم يستجب المحققون لطلبها، حتى أذعنوا لذلك، مضيفة: "وجدتهم قد جهزوا تهمة وأخرجوا ورقة يريدون مني التوقيع عليها، بتهمة وجود تواصل بيني وبين غزة، وعندما كان ردي حادًا ورفضت التوقيع، قال المحقق إنه قد يكون هناك رقم يحاول الاتصال بي وكأنهم ينجمون في علم الغيب".
تتابع باستياء: "لم يكن هناك موضوع محدد، وكأنه أسلوب استدراج، ثم داروا بالمواضيع وسألوني عن مبلغ بسيط حوله لي أهلي من الأردن"، مشيرة إلى أنها لكونها أردنية الجنسية قدمت شكوى لدى السفارة الأردنية، التي تدخلت وطلبت من الجهاز عدم التدخل بها.
وتعبر البرغوثي عن رفضها فكرة استدعاء حرائر فلسطين، وتقول: "نحن نرفض استدعاء أزواجنا وأبنائنا، فكيف باستدعاء الحرائر؟ والسكوت والصمت قادا إلى هذا التطاول، اليوم عدت لمنزلي، لكن ربما غيري لن يستطيع العودة، فالجميع سمع بسهى جبارة التي اعتقلت في سجن أريحا عدة أشهر، ولا نريد تكرار الأمر"، مؤكدةً أن أمهات الأسرى والشهداء خط أحمر.
تضييق ومنع أنشطة
الكاتبة والروائية د. زهرة خدرج، أيضًا طالها ما طال سابقاتها، عندما أنشأت قبل أسابيع مركز عصفور فلسطين الثقافي بمحافظة قلقيلية، وحصلت على ترخيص له بصفته شركة ثقافية، وبدأت العمل في تنظيم نشاط في ذكرى النكبة وبرنامج خارج القيد تستضيف فيه محررين، وتنظم برامج هادفة وترفيهية للأطفال والشباب.
لم يمر أكثر من ثلاثة أسابيع على افتتاح المركز حتى استدعاها "وقائي" قلقيلية، وطلب تعليق أنشطتها بزعم عدم اكتمال الترخيص، واصفة ما جرى معها بأنه "أمر مهين ومستفز جدًا".
تعلق خدرج لصحيفة "فلسطين" على ما جرى معها من استدعاء وتضييق بأن الاستدعاء سبب أذى نفسيًا لها، وأشعرها بالاضطراب والارتباك خلال التحقيق المستفز، وتقول: "أنا لست مجرمة ولا أفعل شيئا في الخفاء، ونشاطاتنا ثقافية تربوية هادفة يحضرها الناس ويبدون رأيهم فيها، فلماذا الاستدعاء والتحقيق وتكرار الاستدعاءات مرات عدة؟".
وتزايدت حملة الاستدعاءات والاعتقالات على خلفية سياسية في المدة الأخيرة، لكن كان أمرًا جديدًا إقدام أمن السلطة على التعدي على تاريخ الشهداء والأسرى باستدعاء زوجاتهم وأمهاتهم، وهو ما لاقى رفضًا كبيرًا من قطاع واسع من أبناء الشعب الفلسطيني.