لم تعلم نجوى الحسين المنحدرة من بلدة الغابسية شمال شرق مدينة عكا أنها ستخسر قدميها، بسبب سوء تشخيص الأطباء وضعها الصحي.
أبصرت نجوى، آخر العنقود والابنة الصغرى في عائلتها، وهي الوحيدة من إخوتها التي وُلدت في لبنان بعد اللجوء؛ النور عام 1951، وعاشت في مرحلة أولى مع أهلها في جنوب لبنان.
تروي السيدة المقيمة في مخيم نهر البارد للاجئين الفلسطينيين شمالي لبنان أنّ عائلتها جاءت بعد اللجوء من فلسطين إلى بلدة الناقورة جنوبي لبنان، حيث عمل والدها في الزراعة لتوفير قوت عائلته. وتروي أنه كان مناضلًا في صفوف المقاومين الفلسطينيين الذين واجهوا العدو الصهيوني.
تقول نجوى (65 عامًا): "أقمنا في الناقورة التي وُلدت فيها، وتابعتُ تعليمي في مدرستها حتى الصف الخامس الأساسي، وحصلت على شهادة السرتفيكا (الابتدائية) في ذلك الوقت، ثم انتقلت العائلة للعيش في مدينة صور، حيث تابعتُ تعليمي في إحدى المدارس الرسمية اللبنانية، ثم أنهيتُه في الصف العاشر".
وتشير إلى أنّ والدها كان على غرار لاجئين كثيرين متيقنًا من العودة إلى فلسطين، وقد "حاول كثير من الشباب اللبنانيين الذين عمل عندهم في الأرض بعدما عرفهم حين عملوا لديه في فلسطين؛ أن يقنعوه بالحصول على الجنسية اللبنانية، لكنه كان يرفض دائمًا هذا الأمر، ويردّد: (سنعود إلى بلدنا وأرضنا)".
وتستذكر نجوى يوم كانوا يسكنون في الناقورة، وتنزل مع والدها إلى البحر، يتمشّون هناك وتظلّ عيناه تنظران في الأفق البعيد إلى فلسطين، ثم ينظر إليها ويقول: "أتشاهدين هذه المساحة البيضاء في البعيد؟ إنها منطقة الجليل"، تقول: "وكنت أنظر إليه وأستغرب ما يقوله، لأنني لم أجد حينها تفسيرًا لتصرفاته لكي أتفاعل معها".
وتخبر أنّ والدها توفي بعد خمس سنوات من وفاة والدتها، فلم تبقَ إلا الذكريات بعده، وتلك الخاصة بفلسطين التي كان كلما ذهبا إلى البحر في منطقة الناقورة رواها لها.
ضيق اليد
تزوجت نجوى حين كانت في العشرين من العمر، وانتقلت للعيش مع زوجها في مخيم برج البراجنة، وكانت قد أنهت دراستها وتعلمت الطباعة على الآلة الكاتبة، وعملت بهذه الشهادة قبل أن تلتقي زوجها.
وتمضي إلى القول: "بعد مدة سافر زوجي إلى الخارج للعمل، وكي لا أبقى وحدي في البيت عدت للسكن في بيت أهلي في انتظار عودة زوجي، حينها قصف طيران العدو الصهيوني مناطق في جنوب لبنان فخفنا وعدنا إلى برج البراجنة، ثم ماتت أمي جرّاء الخوف والصدمات المتلاحقة، ودفنها أبي في بيروت، وعاد إلى الجنوب للعيش هناك".
وتذكر نجوى أنّها رافقت زوجها إلى مكان عمله في أبو ظبي، وعاشت معه هناك خمس سنوات، ثم عادا إلى بيروت والتحق بحركة فتح وعمل في مستشفى، وكان راتبه ضئيلًا لا يكفي لتربية أولادهما الأربعة، وهم ثلاث بنات وصبي واحد.
ولما لم يعمل زوجها كثيرًا في لبنان، ولم يثبت في وظيفة محددة؛ اضطرت نجوى بسبب ضيق اليد إلى دفع ابنتها للعمل حين كانت في الـ11 من العمر، وزوّجت بناتها صغيرات لتخفف عبء مصروف البيت.
تقول: "من أجل تأمين مصاريف البيت اضطررت إلى العمل في التنظيف بمدرسة، مع أنني أملك شهادة تعليمية، وظللت 15 عامًا في هذا العمل الطويل والشاق الذي أثّر في صحتي التي تدهورت حتى بُترت قدماي، وبعدها لم أعد أستطيع العيش بمفردي في البيت، إذ بتُّ أحتاج إلى مساعدة في التنقل وتنفيذ مهماتي اليومية حتى ضمن مساحة ضيقة، فانتقلت إلى مخيم نهر البارد لأعيش مع ابنتي".
عودة إلى الحياة
وعن مشروعها الزراعي تقول: "شعرت بملل وضجر في البيت لأنني لم أكن أعمل، لكن دار الشيخوخة وفّرت لي مشروعًا تمثّل في زراعة الأسطح، ولأنّ وضعي الصحي لا يسمح بصعودي إلى السطح؛ أمّنت الدار لي أوعية كي أزرعها في شرفة المنزل، ووفّرت لي الشتول والتراب والمعدات اللازمة للزرع".
وتلفت النظر إلى أنّ المشروع أحيا أشياء عدة لديها، تقول: "عوضني فُقداني قدماي، ومتّعني بالمنظر الأخضر الجميل، ويسمح لي بالاستفادة من المزروعات، ويساعدني كي أتحرك وأتسلّى، وأهتم بها، وأنا أعطي الجيران بعض المزروعات مثل الفجل والبقدونس وغيرها".
وتختم: "لم أكن أعرف شيئًا عن الثورة الفلسطينية، ولا عن الفدائيين، لكنّني كنت أخرج في تظاهرات ضدّ العدو الصهيوني واحتلاله أرضنا، ولولا أنني خسرت قدماي لفعلت الأمر ذاته اليوم، خصوصًا بعدما تغوّل العدو الصهيوني في إجرامه بحقّنا، ليتني أعود إلى فلسطين، لأرى بيتنا الذي لم أُولد فيه مثل بقية إخوتي".