حفاوة الاستقبال الشعبي والعائلي بدَّدت حزن وألم تسعة عشر عاماً قضاها المحرر عبد الرحمن رشدان في سجون الاحتلال، فدفء احتضان بلدته "عينابوس" له عوضه عن حضن أمه التي مثَّل فقدانه لها في الأسر "أكبر صدمة" تعرض لها.
"فالاستقبال والاحتضان الشعبي لم أتوقع أبداً أن يكونا بهذا الشكل، وهذا أعطاني رسالة عن مدى امتنان أبناء شعبنا لعطاءات الأسرى"، يقول رشدان لـ"فلسطين".
ويبين أنه عندما رأى الفرحة في أعين أقاربه وأحبابه آثر ألا يزور قبر أمه في اليوم الأول، كي لا يقلب الفرح غمًّا، "فقد مثل فقد أمي في أثناء الأسر أكبر صدمة تعرضتُ لها، فقد باغتها المرض اللعين "السرطان" ومنعها الاحتلال من استكمال علاجها في الأردن بسبب كوني أسيراً".
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل في آخر زيارة له في سجنه قبيل شهر ونصف الشهر من وفاتها، وعلى الرغم من أنها كانت على كرسي متحرك بسبب المرض فإن الاحتلال رفض أن يدخلها الزنزانة لتحتضنه، أو حتى أن يرفع الحاجز الزجاجي ليلمس أصابعها ويقبِّل يديها!
وفي يوم وفاتها الذي حل كالصاعقة على "عبد الرحمن" لم يستطع فتح بيت عزاء لها في السجن، حيث تعرض السجن لقمع من قوات الاحتلال، ونقل الأسرى لسجن آخر، "فحُرمت حتى من أداء صلاة الغائب عليها".
وعلى الرغم من كل الصعوبات التي تعرض لها رشدان في الأسر فإنه صبر واحتسب واستغل فترة السجن في الثقافة والتعليم حتى نال شهادة البكالوريوس في التاريخ من جامعة الأقصى، واجتاز نصف طريق الدراسة في العلوم السياسية من الجامعة العبرية، لكن الاحتلال منعهم بعد أسر الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط من استكمال الدراسة فيها، كما أنه لم يكد يبدأ الدراسة في جامعة القدس – أبو ديس من خلال الأسير القائد مروان البرغوثي حتى نُقل لسجن آخر، ما حال دون إكمال دراسته.
لكن القرار الذي اتخذه رشدان في قرارة نفسه أن يستغل فترة السجن في صقل شخصيته والتزود بالمعرفة، وإلا فإنه سيكون أمام فجوة كبيرة بينه وبين الواقع خارج السجن بعد تسعة عشر عاماً من الأسر، "فقد كنتُ خارج الأسر أعمل تاجراً وأتنقل بين القرى والمدن بالضفة يومياً، فلم يكن من السهل أبداً أن أكون حبيس زنزانة صغيرة، لكن لم يكن أمامي سوى خياريْن إما الصبر والاحتساب وإما اليأس والإحباط اللذان يمكن أن يصيبا الأسير بأمراض نفسية".
التفكير فيما خارج السجن
وما يتعب نفسية الأسير –وفق رشدان- تعرض شعبه في الخارج لمصاعب وابتلاءات، كما حدث في الانقسام الفلسطيني عام 2007م لكن ما هوَّن ذلك هو اتفاق الأسرى على أن الاختلافات الفكرية والسياسية بينهم لا يجب أن تفسد العلاقات الاجتماعية بينهم، وأنّهم جميعاً يعيشون تحت سقف واحد.
ولكن الأسرى لم يستطيعوا أن يمنعوا أنفسهم من الشعور بالألم كلما هاجم الاحتلال الإسرائيلي غزة في حروبه المتعددة عليها، فكان شعور العجز عن فعل شيء لنصرتها يؤلمهم، وكذا الاقتحامات في الضفة الغربية والاعتقالات وهدم البيوت.
ورغم أن الأسرى يعوضون الأسير عن أهله ويكونون خير خلف لهم، فإن ذلك لم يمنع –وفق رشدان- شعور الأسير بالمرارة وهو غير قادر على مشاركة ذويه في مناسباتهم، "فالمناسبات السعيدة هي حسرة في قلب الأسير وذويه على حد سواء".
واستدرك بالقول:" لكن ما خفف عني وطأة هذا الشعور هو أن معاناتي لا تذكر أمام أسرى آخرين قضوا عشرات السنين في الأسر كـ"نائل البرغوثي" و"حسن سلامة" وغيرهم وغابوا عن كل تفاصيل حياة ذويهم وفقدوا أعزاء كثر وهم بين قضبان السجون".
ويرى رشدان أن كل ما يريده الأسرى هو "الحرية ويناشدون أبناء شعبنا للعمل على ذلك، "مع تقديرنا لكل الوقفات والفعاليات التضامنية، لكن الأسرى لا يريدون مخصصات أو طعاما وشرابا، بل "تبييض السجون"".
وكانت سلطات الاحتلال الإسرائيلي قد أفرجت في الثالث عشر من يونيو، عن الأسير عبد الرحمن رشدان من نابلس، بعد أن أمضى 19 عامًا في سجونها.