أطفأ الحاج يوسف قبها سيارته، على مقربة من حاجز إسرائيلي على مدخل قرية "طورة" غرب جنين، وطبع قبلةً على خدّ حفيده يوسف ابن السنوات الثلاث، سار الطفل مع والدته نحو الحاجز وهو يُلوّح لجده الذي أوشك على العودة لقرية أم "الريحان" من خلال بوابة أخرى في جدار الفصل العنصري الذي يفصل بين القريتين.
صوت صراخ جندي إسرائيلي يشهر بندقيته من أعلى برج مراقبة على الحاجز تجاه الطفل ووالدته اللّذين تصلّبا في مكانهما من شدة الخوف، ارتجفت معه أطراف الطفل الذي لم يفهم ماذا يريد الجندي الذي يصرخ من أعلى البرج، قبل أن يترجّل جده من سيارته ويهرع للمكان، ليتفاجأ بأنّ الجندي يريد خلع قميص الطفل القماشي بسبب صورة بندقية مطبوعة عليه.
رغم علامات كثيرة كانت تدور في رأس الحاج قبها، إلا أنه فضّل الاستجابة لطلب الجنود على مجادلتهم، لإدراكه أنه لا فائدة من الحوار معهم، "فيستطيعون تلفيق أيّ تهمة أو حتى إطلاق الرصاصة".
لم يكن الطفل يوسف بعيدًا عن مشهد الحوار، لكنه لم يعرف تفاصيله الدائرة، جهل الطفل أنّ بندقية مرسومة على قميص جعلت جنود الاحتلال الإسرائيلي يجبرونه على خلعه، ولم يفهم لماذا ظلّ مجرد الملابس في الجزء العلوي من جسده.
كذلك لم يستبعد جدّ الطفل أن يقوم الجنود بسجن حفيده إن دخل في جدال معهم، فقبل يومين دخلت أختان في الخليل في جدال مع أحد الجنود، بعدما ادّعى أحد الجنود أنّ إحداهما كانت تحمل سكينًا وهي تلهو أمام منزل عائلتها، وظهر مقطع فيديو للطفلتين وهنّ يعشن حالة من الخوف في أثناء اقتياد الجنود لإحداهن.
هذه الذريعة يمكن أيضًا أن تلفّق لطفل في الثالثة، فحكومة الاحتلال أجرت تعديلات على ما يسمى "قانون الأحداث" الذي يمكن بموجبه محاكمة الأطفال في الثانية عشرة بدلًا من الرابعة عشرة.
في المشهد، طفل بريء ترسم قسمات وجهه ابتسامة، يقبض يده ويمد إبهامه للأمام بعلامة "لايك"، وجنود إسرائيليون يحملون قلبًا من الصخر، عاد الطفل إلى منزله بلا قميصه، الطفل لم يفهم ما الذي جرى معه، ولماذا جرّدوه من ملابسه، وهو الذي أبصر الحياة قبل ثلاث سنوات وما زالت أسنانه اللبنية غير مكتملة الظهور ليدوّن الاحتلال جريمة بحقّ الطفولة.
خلف الكواليس
وقعت الحادثة الساعة العاشرة والنصف صباحًا في الخامس من يونيو/ حزيران الجاري. يروي جده يوسف لصحيفة "فلسطين" ما دار من تفاصيل أخرى خلف كواليس الصورة التي انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي وأغضبت رواده قائلًا: "قال لنا الجنود، إنه ممنوع على الطفل المرور قبل أن يخلع قميصه".
يضيف الجد وهو يرسم علامة استفهام بضحكة تهكم أطلقها على الموقف الذي لم يتوقعه في حياته: "حاولت بداية وضع القميص في السيارة، لكنهم رفضوا السماح لنا بالمرور، ورفضوا السماح لنا بالعودة لاستبدالها، فطلبوا خلعه أمامهم وإلقائه بعيدًا، وبقي يوسف عاريًا في الجزء العلوي من جسده".
"كان الطفل خائفًا وأصابته صدمة نفسية من إشهار البندقية تجاهه، "المشهد المتناقض بين سلاح حقيقي يصوّبه الجندي لأجل صورة سلاح مطبوعة على قميص قماشي لم يجد له الجدّ تفسيرًا، كما لم يستطع حتى اللحظة إخبار حفيده بما جرى خشية من حدوث مضاعفات نفسية أخرى.
رغم الابتسامة التي رسمتها قسمات الطفل يوسف عندما التقطت والدته صورة على الحاجز بعد خلع القميص، إلا أنّ هناك صورة أخرى لم تلتقطها، يقول جده "أيّ طفلٍ عندما تأخذ منه قميصًا هو طلب شراءه لأنه رأى شخصية كرتونية يحبها ويتابعها ترتديها أو طفلًا آخر، فإنه يسأل عنها عدة مرات، وهذا ما حدث معنا، وبقي حزينًا على القميص ومصدومًا من الحدث كله".
يدرك جدّ الطفل ووالدته أنّ هذه "طريقة لإذلال الفلسطينيين"، ويتساءل عن "الفرق بين صورة سلاح أو صورة شخصية كرتونية وغيرها من الصور المحببة للأطفال".
مسافة طويلة
لا تفصل المسافة الفعلية بين منزل والد الطفل في قرية "طورة" (خلف الجدار) عن منزل جده في قرية "أم الريحان" من الجهة الأخرى من الجدار عن خمس دقائق أو نصف كيلو، لكن تضطر العائلة في كل مرة تزاور لقطع مسافة ثلاثة كيلو مترات تستغرق أكثر من ساعةٍ، ولا تتوقف الأمور هنا.
يوضح الجد أنّ التنقل يتخلّله عملية تفتيش في معظم المرات، و"حرق أعصاب"، وتوقيت محدد يتحكم في الحياة الاجتماعية إذ تُغلَق بوابة الحواجز عند الساعة التاسعة مساءً ولا "يسمح لأحد بالخروج أو الدخول، وفي أقلّ حدث يقومون بإغلاق بوابة المدخل الوحيد للقرية ويبقى الأهالي تحت رحمة الجنود".
ترويع الأطفال
مدير برنامج المساءلة في الحركة العالمية للدفاع عن الأطفال فرع فلسطين عايد أبو قطيش، يقول، إنّ الهدف من الحادثة التي جرت مع يوسف هو ترويع الأطفال الفلسطينيين الذين يعيشون في المناطق القريبة من جدار الفصل العنصري، مشيرًا لوجود سياسة إسرائيلية تهدف لترويع الأطفال حتى يرضى الأهالي بالأمر الواقع المفروض هناك بقوة الاحتلال.
ورصدت الحركة العالمية كما أفاد أبو قطيش لصحيفة "فلسطين" تزايدًا في انتهاك الأطفال منذ بداية العام الجاري، إذ قتل جنود الاحتلال 14 طفلًا فلسطينيًّا من سكان الضفة الغربية، فيما قتلوا خلال العام الماضي 19 طفلًا، وهذه دلالة واضحة على زيادة الانتهاكات والجرائم بحقّ الأطفال الفلسطينيين.