في مفهوم الوعي العربي المعاصر، لم يختلف شهر حزيران-يونيو عام 67، مع ما سبقه من تاريخ النكبة عام 48، إلا الخلاف على التسمية: هل هي هزيمة أم نكسة، وفي الحالتين الخاسر كان النظام الرسمي العربي ومؤسساته العسكرية والأمنية التي توارثت أثقال الهزيمة في شهورها وسنواتها، وأيامها الحالية تعايشها أجيال عربية سمعت وقرأت عن تضخم وتقزم الأسباب في الوقت نفسه، على الرغم من إقرار بعض النظام الرسمي العربي المنتفض حينها بعد الهزيمة بانقلابات عسكرية و”ثورية” بذريعة تغيير الواقع العربي والرد على المؤامرة التي سببت هزيمة خمسة جيوش عربية في ساعات قليلة، أو لبناء قوة ذاتية تساهم في نصرة قضية العرب الأولى بدعم الثورة الفلسطينية المسلحة.
قمة الخرطوم
برامج كثيرة وخطط لم تنتهِ، لا في لاءات قمة الخرطوم التي أعقبت هزيمة حزيران-يونيو 67 ولا في كل البرامج الرسمية المستمرة على النشيد نفسه كل حزيران-يونيو، وعلى أرض الواقع كانت الخطط متوجة بما شهده العالم العربي بعد خمسة عقود في هذا التلاحم العربي الرسمي لرعاية الهزيمة عبر السحق والدمار والثورات المضادة والمؤامرات التي لم تعد مخفية خصوصاً بما يتعلق في قضية فلسطين ومواجهة المشروع الاستعماري الإسرائيلي.
الباحثون العرب
نبشٌ هائل تناوله المؤرخون والباحثون العرب لأسباب الهزيمة وتداعياتها، وخطط ضخمة تعرض لها النظام الرسمي العربي في برامجه وشعاراته المتعلقة ”بإزالة آثار العدوان والهزيمة”، لكن أيا منها لم يقترب للتغيير الحقيقي والمطلوب، لسبب أصبح معلوماً لابن الشارع العادي وغير المسيس، والتأمل في التاريخ المعاصر للأجيال العربية القريبة من الثورات المندلعة في عقدها الأخير، وتأثير الثورات المضادة، وموقع التكوينات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في النظام العربي المنهزم في حزيران-يونيو قبل 55 عاما. يستطيع الناظر إلى بنيته أن يلحظ بسهولة تكوينات الهزيمة ورعايتها المطلقة ممن يدعي تصديه لها، حيث تربعت حقائق لا يمكن طمسها، ودرجة نضجها وقوتها تفرض هيمنتها المطلقة بما يخص القضية الفلسطينية وأسباب الفشل التاريخي لاستبدال الهزيمة “بنصرٍ مؤزر” للضحايا لم يأتِ لا من جيوش عربية، ولا من أنظمة أصبحت برامجها وخططها مرفوعة على الملأ في خندق واحد مع ”المنتصر الصهيوني”.
وفي ظل هذا الوضع، يتبادر إلى الذهن السؤال الأكبر: لماذا نجحت الهزيمة؟
ولماذا استمر واتسع المشروع الصهيوني وآخذٌ بالتفوق على أكثر من جبهة عربية؟
في حين تعثرت وفشلت كل الخطط والبرامج العربية، مع أن المنهزمين، يرددون بصورة مشتركة حقائق الروابط التي تجمع ضحايا المشروع الصهيوني في فلسطين مع أشقائهم من المحيط إلى الخليج، وهم أنفسهم حمّلوا (إسرائيل) مسؤولية وقوعهم تحت وطأة التخلف وغياب التنمية والديمقراطية والفساد وهيمنت على شعاراتهم تصورات هذيانية ولاعقلانية حتى يومنا هذا في البحث عن المؤامرة والدسائس والخيانة لطمس الدور الحقيقي لبنية الأنظمة الحاكمة، ولا يتساءلون كيف تسللت الهزيمة واستوطنت في كل الاتجاهات.
الإجابة الموضوعية والمقنعة كانت في ميادين وساحات وأزقة عربية، وفي ملايين الضحايا وتراكم الجثث، وحطام المدن وتغول القمع الذي برهن على قدرة حماية الهزيمة وسيطرتها وإنجازاتها في الزنازين وتكميم الأفواه واستشراء العسكر وصولاً إلى التحالف مع الطرف الصهيوني الذي هزم الأنظمة نفسها ويجبي منها اليوم سبل ازدهاره، مقابل استمرار وظيفتها كأدوات باطشة بالمجتمعات الباحثة عن حرية وديمقراطية تناصر تحرر أشقائها.
لا نحتاج إلى الكثير لوصف هذه المرحلة التي نعيش حتى اللحظة تألق المشروع الصهيوني وقوته وهيمنته، وهي حقبة خبرها الشعب الفلسطيني والعربي منذ النكبة ثم هزيمة جيوش النظام العربي المستمرة، على أنها تألق وتفوق وهمي مليء بشطحات الاستعلاء والعنصرية التي صاغها ويصوغها النظام العربي بالتحالف مع المشروع الصهيوني المختزل تصورات بائسة عن استمراره في كي وعي الأجيال العربية.
وكما تؤكد الأحداث الجارية في فلسطين وكما أكدت الشوارع العربية عدم استكانتها للهزيمة التي استوطنت أنظمتها، فالدلالات تشير إلى من هو المهزوم ومصير الترسانة العسكرية والأمنية لأنظمة القمع العربي مع ترسانة الصهيوني، نوع من البشارة لمعرفة مصائر التكوينات الاستعمارية والاستبدادية في هذا العالم العربي الممسك بالراية الإسرائيلية التي تؤدي إلى البربرية والدمار.
أخيراً، تأمل حزيران-يونيو 67، في مفهوم الوعي المعاصر، هزيمة متكررة بشروط وأدوات مستمرة، استدعت سياسة الاستبداد والطغيان لتدمير الأوطان والعقل العربي، أن تأتي بأكداس من سفلة الأنظمة نفسها كي يحولوا هذا الدمار إلى انتصارات ”للهزيمة” بعيداً عن أبسط المعايير الأخلاقية والإنسانية والوطنية.