في عام 1852 نظمت الدولة العثمانية في القدس جميع الأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية، بما في ذلك الكنائس المسيحية، من حيث تحديد مكان كل طائفة مسيحية وكنيستها، داخل كنيسة القيامة. وهذا ما اعتبر "الواقع القائم" الـ"ستاتيكو" الذي لا يتغير، وقد اعترف به الجميع بما في ذلك الدول، وهو ما حافظت عليه بريطانيا من 1917-1948، وحافظ عليه الأردن من 1950 إلى 1967. ولم يُخترق بتاتاً إلا بعد الاحتلال الصهيوني للقدس، حيث وقعت عدة انتهاكات لأماكن مقدسة مسيحية وإسلامية في القدس، كما في فلسطين كلها قبل 1967 وبعدها.
ووصلت عمليات الانتهاكات إلى حد تقسيم الصلاة في الحرم الإبراهيمي في الخليل، والسيطرة العسكرية عليه فتحاً وإغلاقاً لأبوابه، حتى أصبح أصحابه المسلمون أضيع من الأيتام على مآدب اللئام فيه. وهنالك أضرحة صودرت بالكامل، كضريح "سيدنا يوسف" عليه السلام في نابلس مثلاً.
أما الانتهاكات الأخطر فقد كانت من نصيب المسجد الأقصى وقبة الصخرة وباحاته وجواره، وهو المحدد بكامله أرضاً وبناءً وأسواراً وأبواباً وأحياءً في مراسيم تنظيمات 1852 (ستاتيكو- Statusquo). وقد اخترع الصهاينة اسماً للمكان أسموه بجبل الهيكل، والزعم بأنه مكان الهيكل المنسوب للنبي سليمان عليه السلام. ولكن الحفريات التي لم تترك شبراً إلا وصلته تحت المسجد الأقصى، أثبتت بطلان أي أثر للهيكل المزعوم في المكان، كما هو الحال بالنسبة إلى كل الآثار اليهودية المزعومة في القدس وفلسطين، قبل ألفي سنة من ميلاد السيد المسيح عليه السلام، بالرغم من هذا الزعم الذي لا أساس له في مكان المسجد الأقصى، أو في أي مكان حوله مهما وسعت دائرته من دونمات، ومع ذلك ظل الهدف الصهيوني بناء الهيكل المزعوم مكان المسجد الأقصى بعد هدمه.
هدف الكيان الصهيوني النهائي ليس انتهاك الواقع القائم الستاتيكو للمسجد الأقصى أو تقسيم الصلاة فيه، كما هو مسعاه من الانتهاكات الحالية، إنما هدم المسجد وقبة الصخرة، ومصادرة المكان كله وما حوله بأسرهما، الأمر الذي يعني عملياً وموضوعياً شنّ حرب دينية ضدّ مسلمي العالم كله
فهدف الكيان الصهيوني النهائي ليس انتهاك الواقع القائم الستاتيكو للمسجد الأقصى أو تقسيم الصلاة فيه، كما هو مسعاه من الانتهاكات الحالية، إنما هدم المسجد وقبة الصخرة، ومصادرة المكان كله وما حوله، الأمر الذي يعني عملياً وموضوعياً شنّ حرب دينية ضدّ مسلمي العالم كله. فالهدف ليس التوسّع ولا الاحتلال والسيطرة، وإنما اقتلاع المسجد الأقصى وقبة الصخرة، وما حولهما من أحياء ومحوها تماماً. وقد يكمل المشروع الصهيوني إذا استطاع محو كنيسة القيامة، وتهويد القدس بالكامل، لأن الأماكن الإسلامية والمسيحية في الحرب الدينية اليهودية مناقضة للعقيدة والوجود اليهوديين، بما فيه كنيسة القيامة، كما هو الحال بالنسبة إلى المسجد الأقصى.
على أن الصراع الدائر الآن، بالنسبة للكيان الصهيوني، هو في مراحله الأولى التي لا بد من أن تتحقق بالسيطرة العسكرية المطلقة عليه، أولاً، وذلك بإزاحة حراس الأوقاف الإسلامية الأردنية؛ الذين أصبح دورهم جزئياً وشكلياً وصورياً، الأمر الذي يشكل الانتهاك الأول والأخطر للستاتيكو المكرّس منذ 1852. أي يجب أن تكون حراسة المسجد الأقصى من قِبَل قوات إسلامية خالصة تماماً وفقط.
ولهذا فإن كل حديث دولي، أو غربي، حول الحفاظ على "الأمر الواقع" للستاتيكو، يجب أن يتضمن منع دخول الجنود الإسرائيليين إلى باحات المسجد الأقصى، أو السيطرة على أبوابه، بدلاً من حراس الأوقاف الإسلامية الأردنية الذين أُبعدوا تماماً بعد اتفاق أوسلو، وتمت السيطرة العسكرية الصهيونية على المكان.
كل حديث دولي، أو غربي، حول الحفاظ على "الأمر الواقع" للستاتيكو، يجب أن يتضمن منع دخول الجنود الإسرائيليين إلى باحات المسجد الأقصى، أو السيطرة على أبوابه، بدلاً من حراس الأوقاف الإسلامية الأردنية الذين أُبعدوا تماماً بعد اتفاق أوسلو، وتمت السيطرة العسكرية الصهيونية على المكان
أما حين يحصر وزير خارجية أمريكا بلنكن "الأمر الواقع" ببعض الانتهاكات، معتبراً ما حدث من احتلال عسكري للمسجد الأقصى وباحاته جزءاً من "الأمر الواقع"، فهذا يعني تسليماً "بأمر واقع جديد" لا علاقة له بالقانون الدولي الخاص بالستاتيكو المتعلق بالمسجد الأقصى. وهو ما يجب أن يوضحه الأردن والفلسطينيون بلا هوادة؛ في موضوع دخول القوات الصهيونية إلى داخله، والسيطرة عليه وعلى أبوابه، وأسواره أو جواره حائط البراق، إذ المسؤول عن الأمن في المسجد الأقصى، بما في ذلك الإشراف على زواره، إنما هم حرس مديرية الأوقاف الإسلامية الأردنية، هذا أولاً.
أما ثانياً فإن ما يعتبر انتهاكاً صارخاً للواقع الراهن الستاتيكو في المسجد الأقصى، فيتمثل في ما تتخذه القوات الصهيونية المحتلة من إجراءات، مثل السيطرة على أبوابه الخارجية من وضع "كاميرات" أو حواجز حديدية، أو التحكم بمن يسمح لهم بالدخول والصلاة في المسجد، أو التحكم بالزوار. وبهذا تمرّر انتهاكات المستوطنين تحت حراب الجيش الصهيوني، فكل الانتهاكات التي يمارسها المستوطنون تتم من خلال حماية الجيش وإشرافه.
وهذا يوجب أن يطبق الستاتيكو بعيداً كلياً من أي تدخل عسكري صهيوني، خصوصاً بالنسبة إلى دخول المصلين المسلمين، أو اقتحامات المستوطنين، أو مصاحبة الزائرين. ومن ثم عدم إعطاء ايّة شرعية لواقع احتلال المسجد الأقصى باعتباره منسجماً، أو متماشياً، مع الستاتيكو الخاص بالمسجد الأقصى.
ثالثاً، إن كل ما يجري من صدامات أو اعتقالات داخل ساحات المسجد الأقصى، أو ضمن أبوابه الخارجية أو الداخلية، يشكل انتهاكاً لما كان قائماً من وضع قانوني للستاتيكو. فبأيّ مفهوم يمكن اعتبار الوجود العسكري الصهيوني داخل المسجد الأقصى، وإطلاق النار، والاعتداء على المصلين، أو إجبارهم على المغادرة، أو محاولة إغلاق أبواب المسجد الأقصى، ومحاصرة المصلين، ليست انتهاكات صارخة لقانون "الواقع القائم"- الستاتيكو لعام 1852، كما لكل تاريخ هذا التنظيم منذ ما قبل 1967؟ فهذه النقطة بالذات يجب ألاّ يُسمح لأمريكا بالتلاعب بها، أو لأيٍّ التفريط بها.
وأخيراً وليس آخراً، كما يقولون، إن الاحتلال العسكري والسيطرة العسكرية على المسجد الأقصى، هما عنوان الحرب الدينية التي يشنها المستوطنون، بالتواطؤ مع كل قيادات الكيان الصهيوني، لاقتسام الصلاة فيه، أو اقتطاع بعض أقسامه كالمصلى القبلي، أو حماية الاقتحامات، وتنفيذ الشعائر الدينية اليهودية، هو الذي يدعو إلى الحرب، وإلى ما هو أبعد من الحرب. ومن ثم ما لم يوضع حد لهذا الاحتلال والسيطرة، فإن قانون انتهاك الواقع القائم الستاتيكو يكون حالة مستمرة. وستكون التهدئة في موضوع المسجد الأقصى مرفوضة ومحالة، ويجب أن يُركز على المواجهة الدائمة، وذلك باعتبارها أيضاً جزءاً من الصراع ضد وجود الكيان الصهيوني كله.
الاحتلال العسكري والسيطرة العسكرية على المسجد الأقصى، هما عنوان الحرب الدينية التي يشنها المستوطنون، بالتواطؤ مع كل قيادات الكيان الصهيوني، لاقتسام الصلاة فيه، أو اقتطاع بعض أقسامه كالمصلى القبلي، أو حماية الاقتحامات، وتنفيذ الشعائر الدينية اليهودية، هو الذي يدعو إلى الحرب، وإلى ما هو أبعد من الحرب
نعم، وبلا جدال، ينطبق هذا بدوره على كل وجود الكيان الصهيوني الذي يُشكل مخالفة للقانون الدولي، تكرست تحت حراب الاستعمار البريطاني ("الانتداب"). فبدلاً من أن يرحل برحيل الاستعمار، فقد رحل الاستعمار، وانتهى من العالم كله، بينما بقي الكيان الصهيوني، ليس باعتباره جزءاً من الاستعمار، أو حالة من حالات الاستعمار، وإنما كينونة لها خاصية أساسية أخرى، تجاوزت احتضان الاستعمار لها، أو دوره بتأسيسها. وهذه الخاصية هي سمته الاقتلاعية الإحلالية من خلال استيلائه على فلسطين واقتلاع شعبها، وجعلها وطناً قومياً خالصاً ليهود العالم. فهو ليس استعماراً ينتهي بانتهاء الاستعمار والحالة الاستعمارية، وليس مجرد حالة استعمارية.
وبهذا يجب أن يُعامل بموجب خاصيته تلك، ويُفهم بموجب خاصيته تلك. فالصراع معه صراع اقتلاع وإحلال.. أي صراع وجود، وقد أكمل هذا الصراع بجعله حرباً دينية على الإسلام والمسلمين كافة، كما على مقدسات المسيحيين، ومن ثم لا حلّ معه إلّا بإنزال الهزيمة به ورحيله.