تسعى الدول الاسكندنافية، مستفيدة من مواردها الحرجية الكبيرة ومهاراتها التقليدية في مجال الصناعات الخشبية، إلى أن تكون رائدة في مجال تشييد المباني الخشبية المراعية للبيئة والأقل تلويثاً.
يبرز في سماء مدينة سكيليفتيا السويدية برج ذو لون رملي يلمع تحت أشعة الشمس.. فـ"مركز سارة الثقافي" هذا هو أحد أطول المباني الخشبية في العالم، وقد بُني بشكل أساسي من خشب أشجار التنوب ويرتفع 75 متراً بين منازل مغطاة بالثلوج وغابات محيطة بها.
ودُشّن المبنى الخشبي المؤلف من عشرين طبقة والذي يضم فندقاً ومكتبة وقاعة عرض ومسرحاً، نهاية عام 2021 في مدينة يبلغ عدد سكانها 35 ألف نسمة في شمال السويد.
وتغطي الغابات التي تضم في معظمها أشجار التنوب، عدداً كبيراً من المناطق الشمالية في السويد، فيما يُعتبر بناء المنازل الخشبية تقليداً قائماً منذ فترة طويلة.
ويرغب المهندسون المعماريون السويديون حالياً في أن يصبحوا رواد تغيير جذري على مستوى البناء وتوجيه هذا القطاع نحو اللجوء إلى طرق بناء أكثر استدامة، إذ ظهرت مبان خشبية عالية في السويد والدول الاسكندنافية المجاورة بفضل تقنيات متطورة في هذا القطاع.
وتقول المسؤولة عن التخطيط العمراني في سكيليفتيا تيريز كرايسل لوكالة فرانس برس خلال إحدى الجولات داخل المركز الثقافي إنّ "المركز بطبقاته العشرين متين بفضل الأعمدة والعوارض وتفاعلها مع الفولاذ والخشب".
وبنيت قمرة المصاعد في المبنى من الخشب أيضاً.
وتشير كرايسل إلى عدم استخدام "مادة البلاستر ومانعات التسرب والمواد العازلة على الخشب"، مضيفة أنّ هذا الأسلوب "فريد لجهة مبنى مؤلف من عشرين طبقة".
ويقول مؤيدو هذا النهج إنّ الميزة الرئيسية للعمل بالخشب تتمثل في أنّه صديق للبيئة أكثر من المواد الأخرى.
انبعاثات الكربون
ويعتبر الإسمنت المستخدم في صناعة الباطون بالإضافة إلى الفولاذ، وهما أكثر مادتي بناء شيوعاً، من بين أكثر المواد تلويثاً لأنّ استخدامهما يؤدي إلى انبعاث كميات كبيرة جداً من ثاني أكسيد الكربون، أحد أبرز غازات الدفيئة.
أما الخشب فيؤدي إلى انبعاث نسب منخفضة من ثاني أكسيد الكربون ويحتفظ بالكربون الذي تمتصه الشجرة حتى عند قطعه واستخدامه في البناء.
وبما أنّ الخشب أخف وزناً، فإنه يتطلب أسس بناء أقل.
وتشير الهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتغير المناخي إلى أنّ انبعاثات الكربون الناجمة من استخدام الخشب في البناء أقل بأكثر من ثلاثين مرة من الانبعاثات الخاصة بالخرسانة، وأقل بمئات وحتى آلاف المرات من الانبعاثات الكربونية جراء استخدام الفولاذ.
وتقول المنسقة في منظمة "تراستاد" التي تكافح من أجل رفع عدد الأبنية الخشبية جيسيكا بيكر إنّ الجهود العالمية المبذولة لخفض انبعاثات غازات الدفيئة أثارت طفرة على مستوى الاهتمام بالمباني الخشبية.
ويؤكد روبرت شميتز، أحد مهندسَيْ المشروع المعماريَّيْن، أنّ برج سكيليفتيا "دليل على إمكانية بناء مبنى مرتفع عبارة عن مجمّع بالاعتماد على الخشب".
ويضيف "عندما يشكل هذا الإنجاز مرجعاً خلال المناقشات، يمكن القول +بنينا هذا المركز، فكيف يمكن الإشارة إلى أنّ الأمر غير ممكن؟".
أما البرجان اللذان يتفوقان على "مركز سارة الثقافي" في الارتفاع فهما برج شُيّد أخيراً في بروموندال النروجية المجاورة يبلغ ارتفاعه 85 متراً، ومبنى في فيينا بعلوّ 84 متراً.
ويتوقّع أن ينتزع مبنى قيد الإنشاء في مدينة ميلووكي الأميركية ومن المقرر تدشينه قريباً لقب أطول مبنى خشبي في العالم بارتفاع يزيد قليلاً عن 86 متراً.
ويوضح المهندس المعماري الثاني في المشروع أوسكار نوريليوس أنّ بناء المركز الثقافي من أخشاب التنوب شكّل "تحدياً كبيراً" لكنّه "أتاح المجال أمام التفكير بطرق بناء جديدة".
ويقول إنّ غرف الفندق كانت على سبيل المثال مشيدة بأسلوب الوحدات السكنية الجاهزة ثم "كُدّست كقطع الليغو في الموقع".
وحاز المبنى عدداً كبيراً من جوائز مرتبطة بالهندسة المعمارية الخشبية.
ويؤكد أنديرس بيرينسون، وهو مهندس معماري آخر في ستوكهولم يفضّل الاستعانة بالخشب في عمله، أنّ لاستخدام هذه المادة إيجابيات كثيرة.
ويقول "إذا سُجّل خطأ ما أثناء عملية التقطيع، فمن الممكن تعديله في الموقع باستخدام السكين والمنشار. إن الخشب يمثل تقنية عالية وبسيطة في الوقت نفسه".
أما في ستوكهولم، ففاز مجمع "سيدرهوسن" السكني المصنوع من الخشب بلقب مبنى العام الذي تمنحه المجلة السويدية المتخصصة "بيغندسترن".
ويتميز المجمع، وهو في مراحل بنائه النهائية، بألواح خشب أرز صفراء وحمراء موضوعة على الواجهة.
ويقول باكر "أعتقد أننا لاحظنا تغييراً خلال السنوات القليلة الفائتة"، مضيفاً "نشهد تغييراً كبيراً في الوقت الحالي، وهو بمثابة نقطة تحوّل. وآمل أن تبدأ دول أخرى بإنجاز مبانٍ خشبية، إذ نرى أمثلة عنها في إنكلترا وكندا وبلاد أخرى".