تحوّلت الصلوات في الشوارع المؤدية إلى بلدة القدس القديمة، أو في أزقتها، إلى مشهد معتاد في المدينة التي لطالما غضب سكانها من تدخلات الاحتلال الإسرائيلي المتواصلة في شؤون المسجد الأقصى، والقيود التي فرضتها على دخول المصلين إليه.
فما أن ينطلق نداء "الله أكبر"، من مآذن المسجد الأقصى حتى يصطف عشرات، وفي أحيان أخرى مئات من المصلين، رجالاً وأطفالاً ونساء، لأداء الصلوات، ولكن هذه المرة في الشوارع القريبة.
ومنذ الأحد الماضي، لا ينضب تدفق المصلين إلى منطقة باب الأسباط، في الجدار الشمالي للمسجد الأقصى، أو باب المجلس، في الجدار الغربي له، ليلاً أو نهاراً.
وتبدأ الصلوات في ساعات الفجر، بمشاركة العشرات، وتزداد شيئاً فشيئاً، في صلوات الظهر والعصر والمغرب، وتكون الذروة في صلاة العشاء، حيث يصل مئات من المصلين.
وبموازاة هذا الحراك الذي يكتسب زخماً تدريجياً منذ ظهر الأحد، فإن شرطة الاحتلال تدفع مئات من عناصرها إلى محيط المسجد الأقصى وبوابات البلدة القديمة وأزقتها.
بدورهم، يصطف أفراد الشرطة وشرطة حرس الحدود المزودون بالهراوات وقنابل الصوت والمسيلة للدموع، أمام المصلين في استعراض للقوة.
وكانت مسارعة شرطة الاحتلال إلى تثبيت بوابات فحص إلكترونية على المداخل الخارجية لبوابتي الأسباط والمجلس، السبت الماضي، وتوسيعها لتشمل باب السلسلة، في الجدار الغربي للمسجد، قد فجّرت غضباً فلسطينياً جديداً.
ففيما أصرت الشرطة على وجوب مرور المصلين من خلال هذه البوابات، رد المصلون بالإصرار على تمسكهم بالدخول إلى المسجد دون قيود.
و قال محمد (25 عاماً) وهو من سكان البلدة القديمة في القدس "إنها معركة عض الأصابع".
وأضاف الشاب مفضلاً عدم الكشف عن اسم عائلته لدواع أمنية، "نحن نصر على تراجع شرطة الاحتلال عن إجراءاتها، وهم يصرون على فرض هذا الإجراء الغريب علينا، وفي نهاية الأمر سننتصر وسيتراجعون".
وقد كان وضع البوابات الإلكترونية على مداخل المسجد الأقصى، مطلباً صعب التنفيذ للكثير من المسؤولين في الحكومة اليمينية الإسرائيلية، تحدثوا عنه في العام الماضي.
واتخذت حكومة الاحتلال من اشتباك مسلح نفذه 3 فلسطينيين عند أحد بوابات المسجد صباح الجمعة قتل فيه شرطيين اثنين قبل استشهاد الثلاثة برصاص شرطة الاحتلال، ذريعة لوضع البوابات.
وجاء الرد الفلسطيني برفض هذه البوابات سريعاً.
"لا دخول من هذه البوابات"، قال واصف البكري، القائم بأعمال قاضي القضاة (يتبع للحكومة الأردنية)، وسط صيحات "الله أكبر" من مئات المصلين.
وأضاف البكري الذي يرتدي عمة حمراء، فيما بات موقف إجماع في مدينة القدس "لن نسمح بالتفتيش على بوابات المسجد الأقصى، لا نسمح بالتفتيش للدخول إليه".
وسارع الشيخ عمر الكسواني، مدير المسجد الأقصى، إلى إمامة صلاة ظهر الأحد في الطريق المؤدي إلى باب الأسباط، وهكذا استمر الوضع حتى الآن.
وما زال العشرات من الشبان، يتوافدون على مدار الساعة من أجل أداء الصلوات في الشارع، تتخللها اشتباكات بالأيدي مع عناصر شرطة الاحتلال.
صيحات "الله أكبر"، و"بالروح بالدم نفذيك يا أقصى"، ما تلبث أن تسكت حتى تتعالى من جديد، ومعها تتكثف استعدادات شرطة الاحتلال للقمع.
وحسمت "المرجعيات الإسلامية"، في مدينة القدس، موقفها، أمس، في بيان أصدرته، برفض البوابات الإلكترونية، ودعت المصلين لأداء الصلاة في أقرب نقطة من المسجد الأقصى يتمكنون من الوصول اليها.
ووقّع على البيان، عبد العظيم سلهب، رئيس مجلس الأوقاف الإسلامية، وعكرمة صبري رئيس الهيئة الإسلامية العليا، ومحمد حسين مفتي القدس والديار الفلسطينية، وواصف البكري القائم بأعمال قاضي القضاة.
وطالب البيان، المصلين المسلمين، برفض ومقاطعة "كافة إجراءات العدوان الإسرائيلي الجائرة والمتمثلة في تغيير الوضع التاريخي القائم ومنها فرض البوابات الإلكترونية على أبواب المسجد الأقصى المبارك".
وقال الشيخ عكرمة صبري، وهو خطيب المسجد الأقصى أيضاً "هذه البوابات هي تغيير للوضع القائم في المسجد الأقصى، وهي مرفوضة وتتعارض مع حرية العبادة".
وأضاف صبري "لذلك فقد دعونا المصلين إلى عدم التعامل معها (البوابات) أو الدخول إلى المسجد من خلالها".
وتابع "قلنا للمصلين بأن يشدوا الرحال إلى المسجد، ويصلوا في محيطه في حال عدم تمكنهم من الوصول إليه دون قيود".
وانضم إلى هذا الموقف الشيخ عزام الخطيب، مدير عام إدارة الأوقاف الإسلامية في مدينة القدس (يتبع للحكومة الأردنية)، وقال للصحفيين في البلدة القديمة "نحن ملتزمون بقرار المرجعيات الإسلامية".
وأضاف الخطيب "هذا مسجدنا ولا يمكن أن نقبل أي شيء فيه تغيير للوضع التاريخي القائم في المسجد الأقصى، نحن أمناء عليه وهذا مسجدنا ولن ندخل إليه بهذه الطريقة المهينة للمسلمين".
وتتبع دائرة الأوقاف الإسلامية في القدس لوزارة الأوقاف الأردنية، حيث يعتبر الخطيب أرفع مسؤول في الحكومة الأردنية في القدس.
و"الوضع القائم"، هو الوضع الذي ساد في المسجد الأقصى في فترة الدولة العثمانية وتواصل خلال الانتداب البريطاني لفلسطين ثم الحكم الأردني للمدينة مروراً بمرحلة ما بعد الاحتلال الإسرائيلي عام 1967، وصولاً إلى العام 2003 حيث بدأت حكومة الاحتلال بتغيير الوضع القائم في المسجد.
ولطالما كان المسجد الأقصى هو المفجر لموجات غضب كبرى، ففي العام 1996 أدى افتتاح نفق أسفل الجدار الغربي للمسجد إلى ما يعرف بـ"انتفاضة النفق".
كما فجّر اقتحام رئيس وزراء الاحتلال الأسبق أرئيل شارون للمسجد، انتفاضة الأقصى عام 2000، والتي استمرت حتى عام 2006، واستشهد وجرح خلالها الآلاف من الفلسطينيين.
وأدت الاقتحامات الإسرائيلية للمسجد في العام 2015 إلى اندلاع "انتفاضة القدس" المستمرة حالياً.
ويرى المسؤولون في القدس أن التمسك بالبوابات الإلكترونية، من شأنه أن يفجر الأوضاع في القدس والأراضي الفلسطينية مجدداً.
وقال الشيخ صبري "بلا شك فإن من شأن التمسك بهذه الإجراءات تفجير الأوضاع في القدس وغيرها من المناطق في الأراضي الفلسطينية ".
وأضاف صبري، "القرار بوضع هذه البوابات كان سياسياً وليس أمنياً، لأنه لا يخدم الأمن ولا مبرر له ولا فائدة من وضع هذه البوابات سوى محاولة فرض سيادة الاحتلال على المسجد والتضييق على المصلين وهو ما لا يمكن أن نقبل به أو يقبل به أحد".
ويبدو أن المخاوف من تسبب هذه البوابات في تفجير الأوضاع، تتردد في دولة الاحتلال أيضاً، حيث قالت صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية، واسعة الانتشار الأحد "السؤال الذي ما يزال يحلق في الجو، هو من الطرف الذي سيرمش أولاً، إذا لم تأت هذه الرمشة في وقت ما، فإن التوتر في الحرم، المشحون في كل الأحوال، سيكلف ثمناً أكبر".