من منا لم يسمع من جده عن الحكواتي الذي كان يروي لهم الحكايات في ليالي رمضان، وكيف كانوا يكسرون ظلمة الشوارع بالفوانيس التي كانوا يصنعونها من علب الحليب، واللهو على الأراجيح الخشبية حتى سماعهم مدفع الإفطار الذي كانت غزة كلها تفطر عند سماعه.. عادات رمضانية اندثرت تتمنى السبعينية نور الشرفا أن يعود بها الزمن لتعيشها من جديد.
كانت الفوانيس قديمًا تقتصر على الأطفال من أبناء الميسورين، في حين كان البسطاء يصنعون السعادة بأيديهم الغضة، يجمعون علب الحليب، ويأتون بمسمار، وحجر، ويصنعون ثقوبًا على جوانب العلبة، ويأتون بسلك يلفونه على فوهة العلبة لكي يتمكنوا من حمله، ومن ثم يثبتون شمعة بيضاء في المنتصف، ويجولون به في الشوارع والطرقات الرملية.
كانت الشرفا (72 عامًا) بعدما تنتهي من تناول وجبة الإفطار مع عائلتها، تحمل فانوسها الذي صنعته من علبة الصفيح، وتنادي على بنات جيرانها، لكي يقمن بجولاتهن اليومية في الحارة يطرقن الأبواب وهن يرددن "حالو يا حالو.. رمضان كريم يا حالو.. حل الكيس وادينا بقشيش لا نروح منجيش يا حالو".
تقول الشرفا: "كنت وأصحابي نفرح لما نجمع القروش لنشتري الحلويات وبعض القطائف، أو نروح فيها على المراجيح".
تضحك الشرفا متممة حديثها: "لسنا كأطفال اليوم نقضي الليل والنهار على الهواتف الذكية، بل كنا نقضي ليالي رمضان في لعب الألعاب الشعبية: ابن الجمال، والكراسي، والحجلة، وبعض الأطفال المهرة يحولون نواة المشمش إلى صافرة".
الحكواتي
الحكواتي أهم رموز رمضان قديمًا في مدينة غزة، يعود أيمن الشوبكي بذاكرته إلى قبل 60 عامًا، حينما كان ينتظر والده أن يفرغ من أداء صلاة المغرب، ليسمع معه الحكاية الرمضانية اليومية، والأشعار من الحكواتي.
يقول الشوبكي (73 عامًا) لـ "فلسطين": "لا يمكن أن تحلو ليالي رمضان دون الحكواتي، الذي لا أزال أتذكر حتى اليوم هيئته حينما كان يجلس على كرسي خشبي في قهوة كانت بالقرب من مسجد الشمعة في حي الزيتون آنذاك، يرتدي القمباز، والشروال المُقلم، وطربوشه الأحمر القاني، ممسكًا كتابًا كبيرًا في الغالب كتب بخط اليد، والكثير من الرجال ملتفون حوله مشدوهين لقصصه".
ويضيف: "كل يوم كان في جعبة الحكواتي حكاية يرويها من كتابه، ويلقي أبيات شعر في بعض الأحيان، وفي أحيان ينشد بعض الزجل والأغاني الشعبية، وكان يكرمه المستمعين بـ"تعريفة" مصرية".
في انتظار رحلات السياح
في رمضان، كانت تكثر رحلات السياح المصريين إلى غزة في أثناء خضوعها لحكم الإدارة المدنية المصرية، وكانت تتركز في شارع عمر المختار الذي كان يعد قلب مدينة غزة، حيث كان ينتظر نزول ركاب الحافلات ليلعب ويلهو مع الأطفال الصغار، وفق ما يرويه الشوبكي.
البيوت كما يتذكر الشوبكي كانت تنار بقنديل الكاز إذا كانت صغيرة، أما إذا كانت كبيرة وتحوي العائلة الممتدة كان تضاء بقنديلين، أما الشوارع لم يكن فيها إنارة ولا كهرباء.
كان الأطفال كما يصف "الشوبكي" يتغلبون على "العتمة" بحمل فوانيسهم التي صنعوها من علب الصفيح في الحارة أو في طريقهم نحو الأراجيح الخشبية والتي كانت على شكل سفينة تهتز إلى أعلى وإلى أسفل، وكانت تتركز عند مسجد السيد هاشم في البلدة القديمة شرق مدينة غزة.
لطالما كان اللهو بالمفرقعات أكثر ما يفضل الأطفال فعله في ليالي رمضان، يسميها "الشوبكي" بـ"البمب" حيث كان يشتري بعضا منها حسب ما هو متوفر لديه من مال، ويبقى ملاصقا كما غيره من الأطفال للطفل الغني الذي كان يشتري علبة كاملة ويشاركهم في إشعالها وفرقعتها.
ومع ساعات العصر حتى قبيل أذان المغرب بدقائق، كانت أصوات باعة العرق سوس، والخروب، والتمر هندي، والذين كانوا ينتشرون بعرباتهم تصدح في سوق الزاوية وسط مدينة غزة، وشارع عمر المختار، كان الناس يتهافتون على شرائها باردة كل يوم، كطقس ارتبط بشهر رمضان.
مدفع الإفطار
وقبيل أذان المغرب بدقائق كانت شهيرة عجور برفقة أخويها وأطفال حارة بني عامر في البلدة القديمة، تقف بالقرب من حائط بلدية غزة، لسماع ضرب مدفع الإفطار، وهي تحمل في رقبتها كيسًا من القماش، حاكته لها والدتها، تضع بداخله بعض التمرات والقطين (التين المجفف) والمسليات، مع أطفال حارتها بني عامر في حي الدرج.
تقول عجور (62 عاما) لـ"فلسطين": "بمجرد سماع المدفع كنت أتناول بعض التمرات أكسر بها صيامي، وأنا أركض عائدة إلى بيتي الذي يقع قريبا من المكان، ولكي أتناول الطعام الذي أعدته أمي".
وتردف: "كنت أقضي اليوم بأكمله أجمع القروش لكي أنفقها بعد الإفطار، لشراء المسليات من بائعي البليلة، والترمس، والفول النابت، وأكواز الذرة الصفراء المسلوقة، والحلويات كالسمسمية، والفولية، وحلاوة جوز الهند".
وتتذكر عجور أنها كانت تبتاع الحلويات من حلواني كان مشهورًا في غزة قبل خمسين عامًا، كان يفرد بسطته في مفترق الساحة (ميدان فلسطين)، يبيع النمورة، والعوامة، والقطائف.