في أقصى نهاية الحي الأرمني، يعمل الأب نيقوديموس شنابل راهبًا في دير البينديكتين في دورميتيون. أخبر صحيفة التلغراف كيف انتقل مزيد من المستوطنين إلى مبانٍ مهجورة، وجلبوا معهم التخريب، وإلقاء القمامة، والإساءة، وإلقاء المقذوفات. قال: "لقد دمّروا إطارات سياراتنا، وكتبوا عبارة "الموت للمسيحيين" على الجدران، وكسروا النوافذ، ودنّسوا مقبرتنا، كما تعلمون.. أشياء قبيحة، وهي حقًا عدوانية". قال كوريون بغداسريان، وهو قسّ أرمني، إنه ضحية متكرّرة لسوء المعاملة من اليهود المتطرّفين. قال إن البصق متكرّر إلى درجة أنه كان من المستحيل تذكّر كل الحوادث. وأضاف: "إذا ذهبت إلى الصيدلية وعدت، فقد يحدُث ذلك في الطريق". "إذا ذهبت إلى كنيسة القيامة لأخذ الأوراق، فقد يحدُث ذلك. إذا ذهبت في المساء لزيارة عائلة أرمنية، فقد يحدُث ذلك".
الطريق المفضّل للزوار اليهود إلى حائط المبكى، أحد أقدس المواقع في اليهودية، هو داخل الحي الأرمني، ما يعني أن التفاعلات بين اليهود المتطرّفين والمسيحيين الأرمن أكثر تكرارًا. هذه التفاصيل المروّعة لحياة من تبقوا من المسيحيين في القدس تنقلها "التلغراف" البريطانية، في عددها السبت الماضي. وتذكّر فيه بجريمة الاستيلاء على أراضي الكنيسة الأرثوذكسية من خلال رشوة رجال دين يونان وابتزازهم. هرب المسؤول المالي اليوناني المحتال إلى أميركا الجنوبية، وعلقت الكنيسة في القضاء لاسترداد ممتلكاتها.
تجسِّد مأساة إبادة المسيحية في مهدها في فلسطين مأساة الشعب الفلسطيني بعامة، فنهاية الوجود المسيحي في القدس تعني نهاية الوجود الإسلامي لاحقًا، وتهويد المدينة بالكامل، وهو ما يرسم صورة قاتمة للمستقبل، في حال استمرار سياسة التهويد في ظل الصمت العالمي والعجز العربي والإسلامي. يجب ألا تتحوّل قضية الأقصى إلى قضية القدس، فهي الجزء الظاهر والمحرّك للعواطف فيها، لكن المدينة تعرّضت لتهويد منهجي طاول الأرض والإنسان ولا تزال، ويجب ألا نفرّق بين حجر وحجر في مدينةٍ كلها مقدّسة.
يتعرّض الأقصى لمؤامرة التقسيم الزماني في سياق منهجية التهويد، ومواجهة ذلك أولوية على مستوى الحراك الشعبي والرسمي، من المفروض أن ينخرط فيه أكثر من مليار مسلم يقدّسون المسجد. في المقابل، لا يجوز إهمال ملياري مسيحي يحجّون إلى أقدس مقدّساتهم في القدس. والرسالة إلى هؤلاء أبلغ؛ فالصهيونية نجحت في محو المسيحيين من مهد المسيحية وقلبها وقبلتها. وهذا يستدعي تحرّكًا من الفاتيكان بكل ما يملكه من نفوذ عالمي، وبقية الكنائس الفاعلة في الغرب عمومًا. وليس عبثًا محاولة بوتين هذه الأيام الضغط على إسرائيل، عندما أثار قضية أرض الكنيسة الروسية.
تحالف العالم المسيحي مع العرب المسيحيين في فلسطين خدمة كبيرة للقدس، بما فيها الأقصى، ولا يجوز إعفاء الكنيسة في الغرب من مسؤوليتها تجاه مهد المسيحية. كان المسيحيون يشكّلون أكثر من نصف سكان القدس. وبحسب حنا عيسى، رئيس الهيئة الإسلامية المسيحية (تجمع أهلي)، فإن عدد المسيحيين في القدس، وفق إحصاء 1922 (أجراه الانتداب البريطاني)، كان يفوق عدد المسلمين بقليل: "كان عدد المسيحيين في ذلك الاستطلاع نحو 14700 نسمة، والمسلمون 13400 نسمة". وفي إحصاء عام 1945 (أجراه الانتداب البريطاني أيضًا) بلغوا نحو 29350 نسمة، والمسلمون 30600 نسمة". وبحسب رئيس الهيئة الإسلامية المسيحية في القدس، حنّا عيسى، هبط عدد المسيحيين في القدس عام 1947 إلى 27 ألفًا، بسبب "الأوضاع الحربية" التي نشأت، عشية صدور قرار التقسيم عام 1947. وفقد 50% من مسيحيي القدس منازلهم في القدس الغربية عام 1948، عقب إعلان دولة إسرائيل. وصادرت دولة الاحتلال 30% من الأراضي التي يملكها مسيحيو القدس الشرقية بعد احتلال المدينة عام 1967. وبحسب حديث حنّا عيسى لوكالة الأناضول كان يفترض أن يصل عدد المسيحيين إلى نحو مائة ألف نسمة عام 2000، لولا "الاحتلال الإسرائيلي" وممارساته.
قضيتنا ليست صلاة في مسجد أو كنيسة، فالرواية الصهيونية تدّعي أنها تحمي حق العبادة للجميع منذ عام 1967. المشكلة في حقّ السيادة لا حقّ العبادة، وهذا ما يستدعي القتال على كل حجرٍ في القدس وعلى كل إنسان.