فلسطين أون لاين

حلم "التوجيهي" لم يكتمل

تقرير حنان خضور.. وحيدة والدَيْها أطفأ الاحتلال نور فرحتهما الأولى

...
جنين-غزة/ يحيى اليعقوبي:

تراقبُ حنان (18 عامًا) مع والدتها من شرفة المنزل المطل على فضاء جبلي واسع تكسوه الأزهار، الجمال الأخضر، تنصتُ لتوجيهات أمها مع اقترابها من خوض غمار امتحانات الثانوية العامة: "أملنا فيكِ كبير.. أنتِ أول فرحتنا"، قبل أن تفسد أصوات نحو ثماني عشرة آلية عسكرية إسرائيلية مرَّت من أمام منزلهما بقرية "فقوعة" شمال "جنين" جمال المشهد، وكذلك هدوء قلب أمها: "بلاش تنزلي على الدرس اليوم"، طلبٌ وجدت حنان ما يعارضه: "عندي آخر درس في الدورة؛ بعدها بدي أقعد بالدار وأركز بالدروس.. هاي آخر فرصة"؛ تعالت الأم على مخاوفها: "خلص اعملي اللي بريحك"، وساعدتها في انتقاء ملابسها وغادرت حنان بلمح البصر.

الساعة تشير إلى العاشرة صباحًا، وعقربها يقفُ على المنتصف، حينما ورد اتصالٌ هاتفي لأمها (عبير خضور) يخبرها المتصل بإصابة "حنان"، لم تكن الأم مستعدةً لسماعِ خبر إصابة ابنتها الوحيدة، وهي التي جهزت نفسها وبيتها لاستقبال المهنئين بأول فرحتها بالتوجيهي.

تفاجأت حنان بإغلاق أبواب المعهد الدراسي الذي كانت على موعد مع درسها الأخير في جنين، وبينما استقلت سيارة عموميةً، اخترقت رصاصة إسرائيلية أطلقها قناص من العيار الثقيل يدها وخاصرتها لتستقر في يدها اليسرى ونقلت للمشفى، أدت الرصاصة لتضرر أعضاء جسدها الحيوية من كبد وكلى وطحال بشكل كبير.

ستُ أيامٍ بلياليها عاشتها العائلة بالمشفى، ترقبُ أي خبرٍ عن حالتها.. "كنا نعد الساعة بالدقائق، ننتظر مرور كل ساعة وثانية وأربعين ساعةً، لنرى ماذا سيحصل لها، حتى أفاقت وتحسنت حالها، حمدتُ الله، وغمرتنا فرحة كبيرة، بدأت تسأل عن والدها، وأشقائها الثلاثة" عبر الهاتف تروي والدتها لصحيفة "فلسطين" تفاصيل ما جرى.

ستة أيام عصيبة!

"عرفتنا حنان أننا شعب واحد متكاتف، فقد رأيت أناسًا لا أعرفهم، وتعلمت دروسًا لا ننساها، كانت تقول لي: "حجيب معدل.. وأفرح أبوي"، لكن كانت هواجس ومخاوف تأتيها كنا ندرك أنها لا تعي لما تقوله، بصوتٍ مذعور تحذرني: "اليهود بدهم يطخوا أبوي، وإخوتي".

للتغلب على ما تقوله أمها، جلب والدها مجموعة من القصص، ووضع برنامجًا لتأهيلها في أثناء فترة العلاج – هكذا خطط – فكان لديه أمل أن تتعافى حنان كما أخبره الأطباء، مؤكدين وجود تقدم في صحتها، بينما هي أمسكت يدي والدها وأصرَّت على وعدها له "راح أفرحك، وأجيب علامة حلوة بالتوجيهي".

تعلق والدها أيضًا بقشة أملٍ اتكأ على خبرٍ يطمئنهم يحمله الأطباء أن ابنتها تخطت مرحلة الخطر، حاول شحن طاقة صبرها: "لازم تكوني قوية.. أنا سُجنت وما كانش يهمني".

في وقت استعدت العائلة لإعلان فرحتها بشفاء حنان وتعافيها من الإصابة، رغم حالتها النفسية الصعبة، باغتهم نزيفٌ داخلي مفاجئ تعرضت له بعد ستة أيام من دخولها المشفى ويومين من خروجها من غرفة العمليات.

 لم يستطع جسدها هذه المرة التحمل، وفاضت روحها، تاركةً أمها غارقة في الصدمة التي ما زالت تجثم على صوتها حتى الآن "هي ابنتي الوحيدة، لم أستوعب الأمر حتى اللحظة رغم إيماننا بالقضاء والقدر، أرى وجه حنان في كل شخص يأتي لتعزيتي، لا أستطيع النظر في البيت وأنا لا أجدها أو أسمع صوتها، تساعدني بكل شيءٍ".

كان لدى حنان إرادة كبيرة أن تحصل على معدل يرفع رأس عائلتها ويتباهون بها ويقيمون لها حفلاً ويقرعون طبول الفرحة الأولى التي كانوا يستعدون أن تطرق بابهم.

 حلمت الفتاة الشابة أن تصبح مديرة تسويق وأن تتخرج من كلية التجارة بتخصص إدارة أعمال، رسمت لنفسها مستقبلاً باهرًا، كما كانت تجيد رسم البورتريه والطبيعة المحيطة بها، لكنها عندما كانت ترسم نفسها كانت تنزل دمعة من عينيها، لم تفهم والدتها تفسيرها إلى عندما استشهدت في 18 أبريل/ نيسان 2022.

لن تنسى والدتها عندما طلبت منها ابنتها النزول معها قبل عشرة أيام للجلوس بين الأزهار والأشجار في يومٍ ربيعي كانت فيه السماء صافية، تغلبها دمعةٌ عندما استحضرت الموقف "كانت تلتقط صورًا في هاتفها المحمول، وتسجل مقطعًا مرئيًا تقول فيه: "راح تشوفوا الفرحة اللي راح أفرجيكم إياها".

"أسامة" لا يجد إجابةً!

"وين حنان؟!".. لا يكف شقيقها أسامة (أربع سنوات) عن السؤال عن أخته التي كانت –كما تقول والدتهم– أمًا ثانية له، ينتظرها كل يومٍ وهي عائدة من المدرسة، وفي كل مرة تخبئ يديها خلف ظهرها، وتفاجئه بهدية أو قطعة بسكويت أو لعبة، ثم تقبله وتعانقه، "كان ينتظرها كمن ينتظر أمه، هو يجلس على باب البيت إلى أن تعود"، تخبره أمه أنها "ما زالت بالدرس" عندما يعاود السؤال.

رصدت العائلة، من أم، وأب، وخال، وعم، مجموعة من الهدايا التي سيقدمونها لحنان بعد نجاحها في "التوجيهي" تشجيعًا لها وهي على سرير المشفى، صوت والدتها مسكون بالألم والحسرة "كانت أول فرحتنا بالتوجيهي، ربنا أطعمنا فرحتنا بالشهادة"، حاولت مدرستها وبشكلٍ رمزي مواساة العائلة، بإصدار شهادة لحنان تحمل معدلاً 99% سبقت بها بقية الطلاب.

ما زالت والدتها تحاول التماسك متضرعة إلى الله أن يلهمها الصبر معتزةً بالشهادة التي أحضرتها لها حنان "هذا قدرنا نحن الشعب الفلسطيني، كل شيء نقدمه لأجل فلسطين، لن ننسى حنان، وكما حرمنا منها بالدنيا نأمل أن نلتقي بها في الجنان".

"كيف تخرج ابنتي للدراسة ولا ترجع؟".. يتساءل هذه المرة والدها بقهر، في حين يحاول استجماع قواه في حديثه لصحيفة "فلسطين": "كان لديها حلم بالنجاح والدراسة الجامعية، كانت نور حياتي، الذي انطفأ الآن، ورغم كل القهر عندما نظرت حولي وقارنت نفسي بأهالي الشهداء وواقع الشعب الفلسطيني وجدت أنَّ مصابي هو مصابهم فنحن الفلسطينيين هدفٌ لجيش الاحتلال".

بينما فتح ديسمبر/ كانون أول 2002 أول صفحاته، عندما كانت الدبابات الإسرائيلية تجتاح جنين، أبصرت حنان الحياة، تعاني "خلع ولادة" حملها والدها وسار بها بين الدبابات والموت والحواجز الإسرائيلية وتحت زخات وأصوات الاشتباكات، لم يأبه بتهديدات الجنود له بإطلاق الرصاص عليه، ووقف أمامهم وقال للجندي وهو يحمل طفلته بين ذراعيه: "طخني.. البنت ميتة" وأمام إصراره على إسعافها ذهب للطبيب ووضعها على أجهزة تنفسٍ اصطناعي، وعاشت ثمانية عشر عامًا، وعاد والدها ليحملها مرةً أخرى شابةً في عمرِ الزهور لكن هذه المرة ليواريها في الثرى.

تركت حنان مشغولات يدوية أعدتها من ورق الفوم على أشكال ورود ومعلقات تزين جدران منزلها تخبر أنها كانت تحب الحياة وكان لديها أحلام كثيرة لم تكتمل، تلت آية من سورة "البقرة" في آخر شيء قالته وهي بالمشفى: "أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين"، ورحلت تشكو بها إلى الله.