فلسطين أون لاين

تقرير مراد قمبز.. فدى الأقصى بعينه ويلازم المسجد بإرادة فولاذية

...
مراد قمبز قبل الإصابة (أرشيف)
القدس المحتلة-غزة/ مريم الشوبكي:

فجر 28 من رمضان الماضي، لبى مراد قمبز النداء وتوجه إلى المسجد الأقصى برفقة أشقائه الثلاثة من أجل الرباط فيه لإبطال اقتحام المستوطنين، وما أن أدى صلاة الضحى وقرأ ورده الرمضاني اليومي من القرآن، إذ بأصوات قنابل غاز تهز ساحات الأقصى وسط زخات من الرصاص.

تفرق الأشقاء الثلاثة في رحاب الأقصى، وفي حين لجأ مراد (38 عامًا) إلى المصلى القبلي، إذ بأعداد كبيرة من جنود جيش الاحتلال يقتحمون المصلى ويعتلون أسطحه ويحاصرونه مع مجموعة من المصلين، كما يجري هذه الأيام حيث يصر ما تسمي نفسها جماعات الهيكل اليهودي على ذبح القرابين في المسجد ونثر دمائها في صحن الأقصى وباحاته.

المصيدة

بالكاد التقط مراد أنفاسه محاولًا الوقوف غير أن كثافة الغاز منعته من الرؤية، وبعد محاولات أراد الاستدارة نحو أحد شبابيك المسجد القلبي، فوجد عددًا كبيرًا من الشيوخ والأطفال يحاولون استنشاق الهواء من النوافذ، قبل أن أتمكن من الخروج نحو الهواء الطلق".

ركض نحو ساحة المصلى المرواني، وذهل من أعداد القوات الخاصة الإسرائيلية الكبيرة التي اقتحمت الأقصى من بابي السلسلة والمغاربة لإفراغ المصلين، وإدخال المستوطنين.

بدأت الأمور تتعقد أكثر، جال مراد بنظره باحثًا عن ممر آمن للخروج فلم يجد إلا طريق باب الرحمة، فركض مع مئات الشبان نحو الطريق الملاصقة للسور الشرقي بعيدا عن القنابل والرصاص، لكن الجنود كانوا قد تربصوا بهم في نهاية الطريق فلم ينجُ من المصلين أحد، فكل من مر من هناك نال نصيبه من الرصاص أو الضرب الشديد.

اشتداد النزيف

يتابع مراد لـ"فلسطين": "مجرد أن رفعت نظري نحو الجنود، حتى اصطادني أحدهم برصاصة مطاطية مباشرة اخترقت عيني اليسرى، ومن قوتها تخدر وجهي بالكامل، لم أستطع المشي، رأيت الدم يتدفق من رأسي وأنفي وعيني، خارت قواي فسقطت أرضًا، وخلال ثوانٍ مر شريط العمر أمامي، رجوت من الله الشهادة، ورفعت السبابة ورددت الشهادتين 3 مرات أمام الجنود".

حينها اجتمع عليه الجنود جنود الاحتلال وشتموه بأبشع الشتائم بالعبرية والإنجليزية والعربية، مرددين "مُت، مت، مت".

كان المصلون يمرون من أمامه وكلما همّ أحدهم لإنقاذه سلطوا بنادقهم نحوه، فاشتد نزيف الدماء من عينيه المصابة وأنفه، وبعد مرور عشر دقائق وصل شقيقه الأكبر محمد، الذي كُسرت بعض أضلاعه في أثناء اعتداء قوات الاحتلال.

يقول مراد: "قدّر الله أن يصاب شقيقي ويتأخر عن اللحاق بي، اقترب لينقذني، فقلت له بالله عليك أن تتركني وتنجو بنفسك، أنا بسلّم الأمانة (أي أنا أموت)"، فقال لي "لن أتركك حتى لو كلفني ذلك روحي".

كان الموقف أليمًا على الأخوين، فبعد نحو 20 دقيقة من إصابته، اتكأ مراد على شقيقه المصاب ومشيا حتى وصلا مركبة الإسعاف الكهربائية داخل الأقصى، التي نقلتهم عبر باب الأسباط إلى مستشفى المقاصد في جبل الزيتون، وهناك أجريت له عملية جراحية لاستئصال العين بالكامل. وأفاد التقرير الطبي آنذاك بإصابته بتمزق في الحاجب وتهتك في العظام حول العين.

وحتى بعد عام من الإصابة وتركيب عين زجاجية، تصحب مراد آلام يومية تزداد حدة مع البرد، حتى أن صداعا شديدا رافقه ثلاثة أشهر بعد إصابته.

إصرار على الرباط

انتشر مقطع مصوّر لمراد بعد خروجه من العملية وهو يردد "الحمد لله رب العالمين، في سبيلك يا رب، وكرمال عيونك يا أقصى، لو بنفديك بأعيننا إحنا مقصرين".

ينظر إلى المقطع حتى اليوم ويتعجب من ثباته، ويقول "فقدان العين أمر صعب جدا، كان منظر الإصابة فظيع، والألم لا يحتمل، لكن الله أنزل على قلبي طمأنينة، وثباتا لم أكن لأصمد بدونه، حتى أنني وجدت أطفالي يرددون كلمات المقطع من بعدي فازددت ثباتا".

ومع حلول الذكرى الأولى لإصابته، يقول: "فقدان العين شيء صعب، ولكن الزمان والمكان الذي حدثت في الإصابة خففوا المصاب الجلل علي، فكل شيء يرخص في سبيل الله، والدفاع عن الأقصى، وعزائي أنها ستسبقني إلى الجنة، ويشهد لي موقع الإصابة".

ولم تكن الحادثة التي أصابت عينه هي الأولى في حياة مراد، ففي عام 2017 أثناء هبّة باب الأسباط، أصيب في عينيه بقنبلة صوتية وفقدت البصر مؤقتا، بينما لا يخفي خوفه من فقدان العين الأخرى لاحقا، "لكن قدر الله نافذ، لن يمنعوننا عن الأقصى، ولن أقول أنني قدمت عيني واكتفي وأجلس في بيتي".

فرغم الحدث الأليم وتواصل الألم، لا ينقطع مراد عن التواجد في المسجد الأقصى، وحاليًا يرافقه أطفاله لأداء جميع الصلوات بما في ذلك التراويح، مؤكدا أنه لن يتراجع عن اعتكاف رمضان في الأقصى هذا العام حتى لو تكررت أحداث العام المنصرم.

ويعيش المسجد الأقصى هذه الأيام مواجهات شعبية مماثلة لتلك التي وقعت قبل عام، لما عُرف باقتحام 28 رمضان (سنة 1442 هجرية) الذي وافق العاشر من مايو/أيار 2021، حين اعتدت قوات الاحتلال على آلاف المعتكفين داخل المسجد الأقصى لإبطال اقتحام المستوطنين في ما يسمى يوم "توحيد القدس"، ما أدى إلى إصابة أكثر من 330 فلسطينيا واعتقال العشرات، وإيقاف الاقتحامات 19