انهمكت الحاجة سعاد بشكار "أم محمد" في تحريك اللبن لصناعة طبق المنسف المفضل لدى الأسير المحرر عبد الرحيم، تحاملت على تعبها، لأنها ستشارك ابنها مائدة الإفطار لأول مرة منذ 20 عامًا قضاها خلف قضبان سجون الاحتلال الإسرائيلي.
تعم الفرحة أرجاء بيت بشكار في مخيم عسكر شرق نابلس، حيث يجتمع عبد الرحيم بإخوته وأخواته الأحد عشر وأبنائهم وأحفادهم على مائدة إفطار واحدة.
في غمرة هذه السعادة تذكر عبد الرحيم الأسرى الذين تركهم خلفه في السجن ورفع كفيه إلى السماء داعيًا بأن يجعلهم يذوقوا الفرحة التي ذاقها في رمضان القادم.
ليلة ثبوت هلال رمضان كان في زيارة لمخطوبته في القدس المحتلة، ورغم حلول منتصف الليل، أصر على العودة لمشاركة والدته السبعينية طعام السحور الذي كان آخر عهده به معها حينما كان في أوج شبابه في التاسعة عشرة من عمره.
عبد الرحيم هو "آخر العنقود" لدى "أم محمد"، وشديد الالتصاق بها، فذاكرته لم تخلد سواها بعد وفاة والده وهو في سن الرابعة، فكان اعتقاله مريرًا على قلبهما لتتعانق الأرواح ويسكن روع الفراق، مقسمًا ألا يفارقها مهما حيي.
بمجرد أن يستيقظ عبد الرحيم يطمئن إلى والدته يقبل يدها، ومن ثم يسألها عما تحتاج إليه من السوق، تطلب منه أغراضًا تعرف تمامًا أنه يفضلها ولكنه لا يحب أن يثقلها بطلباته، فقلب الأم دليلها.
تقول أم محمد لـ"فلسطين": "في أول يوم كنت أحرك طبيخ اللبن لأعد المنسف الذي يحب، وبعد دقائق لم يتحمل وقوفي، فأخذ يحرك عني اللبن حتى نضج رغم أنه لا يتقن الطبخ إطلاقًا".
وتتابع: "في أول يوم رمضاني كانت عينا عبد الرحيم تنطقان سعادة، حينما استأذنها لأداء صلاة المغرب والعودة لتناول المنسف معها، فهو كان ينتظر هذه اللحظة منذ عشرين عامًا حيث كان يرافق إخوته إلى المسجد، واليوم يصطحب أبناء إخوته معه".
تفاصيل لا تنسى
قاطعنا عبد الرحيم الحديث قائلًا: "أول سحور تناولته مع أمي بقي محفورًا في ذاكرتي وأحفظ تفاصيله بكل دقة، فهو يوم من عمري".
وتابع ضاحكًا: "البدء في طبق الشوربة بالنسبة لنا فرمان عسكري صادر عن أمي غير قابل للنقاش، منذ أن كنت طفلًا اكتسبت هذه العادة واستمررت عليها في السجن، وحينما خرجت تفاجأت بأن أبناء إخوتي وأحفادهم يسيرون على نفس الفرمان".
اعتقل عبد الرحيم في 5 من مارس/ آذار من عام 2002، وأطلق سراحه في 3 من مارس/ آذار لعام 2022.
كل يوم تتنوع مائدة الإفطار، وتحرص أم محمد، وزوجات أبنائها على صناعة أطباق مختلفة يفضلها عبد الرحيم ولا سيما الفول الأخضر باللبن، والمقلوبة، والعكوب.
يعيش عبد الرحيم مع والدته في بيت واحد، وإخوته يعيشون في بيوت مستقلة في الطوابق العليا، أخوه الأكبر هو من يتولى تحضير سفرة السحور، أما عبد الرحيم فيتولى تنظيف الصحون، وشؤون البيت الأخرى، ويرفض أن تبذل أي مجهود، يريد أن يعوضها من سنوات التعب والانتظار التي أنهكت صحتها وهي تنتظر عودته.
نِعمٌ مفقودة في السجن
وما إن ينتهي من السحور حتى يخرج عبد الرحيم لأداء صلاة الفجر في المسجد، برفقة أبناء إخوته الذين سألوه عن سر سعادته اليومية عند الذهاب لصلاة، يرد: "الصلاة في المسجد نعمة يتمناها جميع الأسرى داخل السجن، وهذه النعمة لا يدرك قيمتها إلا من عاش مرارة السجن".
والنعمة التي يعيشها حاليًّا هي حضن والدته، وتقبيل يدها كلما عاد إلى البيت، يريد أن يعوض كل ثانية عاشها بعيدًا عنها بسبب السجن، وقضاء أطول وقت معها، واستثمار كل اللحظات الجميلة بالقرب منها، ولا أجمع من أجواء وطقوس رمضان التي حرم منها سنوات طوال.