فلسطين أون لاين

"فواز حمايل" لم ينزل عن الجبل

...
الشهيد فواز حمايل
نابلس-غزة/ يحيى اليعقوبي:

عينان مملوءتان بحزنٍ شديد، صامتة على عتبات بيتها، ساكنة بلا حركة أو صوت، لكن كان الألم أشد من أن تخفيه وتواريه خلف ستائر التماسك والصبر، تنتظر ابنها "فواز" الذي لم يعد إلا محمولًا على الأكتاف، جثة هامدة بلا حركة، وهو الذي كان يأتي إليها تسبقه ضحكته من بعيد يقبل يدها ورأسها بعد كل صلاة فجر أو مواجهة مع الاحتلال على قمة "جبل صبيح" الذي لم ينزل عنه هذه المرة.

أصوات المشيعين وهم يتقدمون بجموعٍ حاشدة على باب البيت، يرتخي رأس فواز على كوفية ويكفنه علم فلسطين، وترديد المشيعين "لا إله إلا الله.. الشهيد حبيب الله، خلوا الشهيد بدمه.. ألف تحية لأمه"، يقيمون عرسًا لشهيد "بيتا" وسرعان ما وضعوه أمام والدته للحظات لم تكفِ لكي تخزن صورته الأخيرة أو لتشتم رائحته، أخذوه وانطلقوا به بينما هي ركضت خلفهم لأمتار حتى ابتعد الموكب وجلست على عتبات بيتها تودعه بدموعها.

ما أن انتهى فواز حمايل (47 عامًا) من صلاة فجر 13 أبريل/ نيسان 2022، تهادى إلى سمعه قدوم عدة كتائب من جيش الاحتلال على قمة "جبل صبيح" وقرية بيتا في نابلس بالضفة الغربية المحتلة، كان عائدًا إلى بيته لتبديل ثيابه حيث يعمل مديرًا للشؤون العامة والشباب والرياضة بمحافظة القدس، وكالعادة عندما ينادي "جبل صبيح" لا يتأخر عن الإجابة، فغير وجهة طريقه نحو قمة الجبل يحمل مقلاعًا في جيبه في العادة لا يفارقه تحسبًا لأي طارئ.

"كان أخي فواز يلقي الحجارة على جنود الاحتلال، بعدما قطع مسافة أربعة كيلومترات تفصل بيتنا عن جبل صبيح، إلى أن تقابل مع الجنود على تلتين يفصل بينهما واد، وبينما كان أخي يلقي الحجارة لمنع صعود القوات لقمة الجبل باغته جندي بإطلاق رصاصة "دمدم متفجرة" على خاصرته انفجرت داخل بطنه"، يروي شقيقه عزيز لصحيفة "فلسطين" التفاصيل.

لخمس ساعات بقي عزيز وأبناء فواز؛ قيس (16 عامًا) وأوس (13 عامًا) ينتظرون خبرًا يطفئ جمرات الخوف المشتعلة بداخلهم، زوده الأطباء بأكثر من 50 وحدة دم على مدار ثلاثين ساعةً.

لحظاتٌ عصيبة عاشتها العائلة "بقينا يومين في المشفى، أشفقت على أبناء أخي وهم يلتصقان بي ويحتضناني، يبكياني على كتفي، كل واحد فيهما يريد الاطمئنان والشعور بالأمان، طوال الوقت يطلبان مني سؤال الطبيب عن حالة والدهما، كان قيس يكرر سؤاله لي: عمي أبوي راح يطلع منها؟ كان صعبًا هذا الإحساس وأنت تقف على نقطة فاصلة بين الحياة والموت". 

مع بزوغ فجر الخميس 14 أبريل، بدأت عضلات قلب فواز تضعف، أخيرًا فتح باب غرفة العمليات الساعة الثانية ظهرًا، كانت عينا الطبيب تحمل نصف الإجابة التي قرأها عزيز، بينما قيس وأوس ينتظران ما يبرد نيران خوفهما، اقترب الطبيب من عزيز ومرر الخبر في أذنه يحاول تأخيره عن الطفلين: "ادعو لأخوك بالرحمة.. حاولنا جاهدين إسعافه لكنه استشهد وتوقف قلبه".

للحظات، لم يتمالك عزيز نفسه من أثر الصدمة على قلبه، لا يصدق أنه لن يرى فواز بعد اليوم وهو توأم روحه، لا يفترقان، لكن هذه المرة تبدل الحال، وجاء الطفلان ليواسيا عمهما، لا ينسى كلماتهما "عمي احنا أبونا شهيد، بنفتخر فيه، تعيطش لازم نزغرد له ونسويله عرس" وهما أحوج إلى من يواسيهما.

لماذا كان يذهب فواز للمواجهات؟ قطعت دمعة حارة مسير صوت والدته وهي تجيب على سؤال أحد الصحفيين، بعينين محمرتين وقلب مقهور "كان يحب وطنه، ولا يتأخر عن تلبية النداء والذهاب للجبل، كان دائمًا يقول نحن لا نتخلى عن وطننا".

كان فواز من رواد "جبل صبيح" لم يتخلف جمعة واحدة عن المشاركة في المسيرة الأسبوعية، يزاحم الشباب في التقدم لأقرب نقاط المواجهة، فأصيب في إحدى المرات برصاصة معدنية مغلفة بالمطاط في يده "كان دور أخي توزيع المياه، وتوجيه الشباب، دائمًا يكون في المقدمة، ويقود مشاعل الإرباك الليلي ويجلس على البوق، إضافة لذلك كان مثقفًا جدا، فقد قرأ آلاف الكتب، حتى أن أصدقاءه يسمونه (موسوعة بيتا)، يجيد اللغة الإنجليزية ويفهم التاريخ والجغرافيا، دائمًا كان يتحدث باسم القرية للصحافة ويرافقها لتغطية الأحداث، ووثقها في ملف خاص على مدار 365 يومًا بالصور والتفاصيل ومقاطع الفيديو".

في لقاء صحفي يسأله المراسل عن سبب اصطحاب ابنه للجبل، فقال له كما ينقل شقيقه "أبناؤنا يحبون الحياة، ولكن الاحتلال سرق طفولتهم لذلك يأتي إلى هنا ليدافع عن حقه".

جهز فواز وخطط لاستقبال الأسير المحرر محتسب حمايل الذي أمضى أربعة عشر عامًا في سجون الاحتلال، وجهز زينة الاستقبال ووضع برنامجًا للاحتفاء به، لكن الأسير خرج ولم يجد فواز بانتظاره، فذهب إليه يقرأ الفاتحة على قبره، تطفو على حديث شقيقه آخر لحظات جمعته بفواز "ونحن سائرون أوصاني بالاعتناء بأبنائه قيس وأوس، وعبد العزيز (6 سنوات) لو حدث له شيء، ثم بدأ بالاتصال على بعض أصدقائه ليطمئن على أحوالهم" وكأنها كانت علامات رحيل أرسلها لشقيقه.

بالرغم من أن وضعه المادي جيد جدا، وله منصب بمرتبة مدير، إلا أنه ظل منغمسًا بالأرض، يترك كل شيء يومي الجمعة والسبت ويعمل فلاحًا في أرضه البالغة مساحتها خمسة عشر دونمًا، بعض الذكريات تزور شقيقه "زرعناها بالزيتون، وفي أوقات حصاده نستيقظ باكرًا ونذهب للأرض ونجنيه ونتشارك البيع، ونتشارك في كل شيء، حتى راتبينا كنا نستقبلهما على حساب بنكي واحد، وكان يعتبر المال وسيلة لتلبية أغراض المنزل وليس له أي اعتبار آخر، وفي الجانب الإنساني هو مثقف خلوق، فقد ختم القرآن الكريم مرتين قبل استشهاده، ونطق الشهادتين عندما شعر أنه يغيب عن الوعي".