خلف جدران سجون الاحتلال الإسرائيلي، ينتظر الأسرى الفلسطينيون شهر رمضان الكريم بفارغ الصبر، ليدخلوا في خلوة إيمانية قد لا تُتاح لمن هم خارجه، يقبلون فيها على الطاعات ويفرضون على أنفسهم عزلة بعيدًا حتى عن أخبار الناس في الخارج التي يكونون في تلهف لسماعها في غير رمضان، ولا يقطع هذه الخلوة سوى أحداثٍ جسام كالعدوان الإسرائيلي على غزة الذي وافق في بعض المرات شهر الصيام، فلم يكن بمقدور الأسرى التوقف عن متابعة الأخبار ثانيةً واحدة.
يبدأ الاستعداد للشهر الفضيل قبل قدومه بفترة، وتكون الاستعدادات على كل المستويات، إذ يبدأ الأسرى برصد احتياجاتهم من الأطعمة والمواد الغذائية لرفعها إلى إدارة السجون والمطالبة بتوفيرها، وعادة ما تماطل إدارة السجون في توفير هذه الاحتياجات ولا تلتزم الكميات التي يحتاج إليها الأسرى.
في حين تنقلب حياة السجن 180 درجة بمجرد ثبوت رؤية الهلال، وتختلط في نفوسهم مشاعر الألم لفراق ذويهم مع مشاعر الفرحة بقدوم شهر الطاعات وقدرتهم على تكريس يومهم بالكامل للعبادات وهو ما لا يُتاح لهم في خارج السجون، كما يبين الأسير المحرر محمد قاسم "33 عامًا" لـ"فلسطين".
ويشرح بالقول:" يتوافق الأسرى على إيقاف جميع البرامج الثقافية والإدارية ويضعون برنامجًا يوميًا عامًا يتناسب مع أوقات العبادة، فيحددون أوقاتًا لقراءة القرآن والصلاة، ويمكن لكل أسير أن يزيد من عنده بعض الإضافات".
تتوقف –وفقًا لقاسم- البرامج الرياضية والمطالعة ومتابعة الأخبار ويقضي الأسرى شهر رمضان في تلاوة القرآن والصلاة والذكر والتسبيح، "فنحظى بأجواء روحانية ونفسية جميلة تحسن من نفسياتنا خاصة في الصلوات والدعاء والإفطار بشكل جماعي، ويتحلى الأسرى في رمضان بهمة عالية فيختم الواحد منهم القرآن عدة مرات قد تصل لعشرين".
فدائي الغرفة
وفي رمضان السجون كان يتم تعيين "فدائي" في كل غرفة، كما يصفه قاسم، مهمته إعداد السحور والإفطار لزملائه، واصفًا تلك المهمة بالصعبة والمقعدة لكونه عليه مهمة تحويل أكل إدارة السجون غير صالح للتناول لطعام يمكن تناوله.
ولا يتوقف دور الفدائي عند هذا الحد بل إن عليه مراعاة أذواق ورغبات كل الموجودين في الغرفة وإعداد طعام خاص للمرضى منهم، "وعليه أن يمتلك مهارة إعادة طبخ طعام إدارة السجون وتحويله لطعام صالح للأكل دون أن نخسر الوجبة".
ويتابع قاسم: "عليه أيضًا أن يعد أصنافًا أخرى مما نشتريه له على حسابنا الشخصي من "الكانتينا" وهي أصناف محدودة وباهظة الثمن لكننا كنا نشعر ببركة رمضان في طعامنا".
ويشير إلى أن الأسرى كانوا يشتهون تناول كثير من الأطعمة، "فلم أتناول الجوافة مثلا خلال سني أسري الأربع عشرة، ولم يكونوا يدخلون "الملوخية" وورق العنب سوى مرة واحدة في العام، وكذلك الدقيق".
ويكون يوم دخول الدقيق له ترتيبات خاصة إذ تتولى لجنة توزيع الحصص على الغرف إدارة الكميات المتوفرة، فغالبًا ما يرغب أهل الضفة بإعداد الحلويات التي هم بارعون فيها فيما يقوم أهل غزة بإعداد "المفتول"، "وكذلك تتباين ثقافات الطعام فيقوم "الفدائي" بتلبية جميع الرغبات لكن في الغالب نكون محكومين لرغبات أهل الضفة الذين هم الأكثر عددًا".
ويمضي بالقول: "فنأكل "المقلوبة" مضافًا لها الكركم و"القرنبيط" في أغلب الوقت لكن زملاءنا الضفاويين يتنازلون لنا أحيانًا فنعد المقلوبة بالبطاطا والباذنجان كما يرغبها أهل غزة"، فيُضطر أحيانًا الفدائي لطهي طبقين أو أكثر في ظروف صعبة لكونه يطهو على القرص الكهربائي المعروف بـ"البلاطة"".
ويشير إلى أن الأسرى يساعدون الفدائي لكن المهمة الرئيسة تكون ملقاة على عاتقه ما يجعله يعمل في جو من الضغط الكبير لكنه يعد ذلك "زكاة سجنه"، "ويقوم الأسرى بتبادل الأكل بين الغرف فكل غرفة تطهو نوعًا وتبعث للأخرى طبقًا وتبادلهم الغرفة الأخرى الشيء ذاته".
فرحة عارمة
وبينما يقضي الأسير المحرر تيسير بريعم بكل شوق رمضانه الأول له بين أحضان أسرته وأولاده الخمسة، الذين تركهم أطفالًا، يتمنى أن يحظى كل الأسرى الآباء بهذه اللحظات الرائعة، "فأنا أعرف أن الحزن في قلوبهم كبير على فراق أسرهم لكنهم يتعالون على جراحهم ويبدون مشاعر الفرح برمضان أمام إدارة السجون لإغاظتهم".
ويشير إلى أن الأسرى يستقبلون رمضان بالتصافي والتسامح والاتفاق على برنامج موحد لأداء العبادات في رمضان، "ولكل سجن سياسته في التعامل مع إعداد السحور والإفطار، فبعض السجون تختار قرابة خمسة أشخاص لتولي المهمة، وفي سجون أخرى يختارون شخصًا من كل غرفة لتلبية متطلبات الأسرى".
وإذ يؤكد بريعم أن الطعام الذي تحضره إدارة السجون لا يصلح للتناول الآدمي، فهو إما غير نظيف أو بارد أو غير مطهو جيدًا، فتكون مهمة الأسرى غسله وطبخه من جديد، أو إتلافه وشراء أصناف أخرى من "الكانتينا" وطهوها.
ويبين أن الطعام يتوفر للأسرى بعد تعب وشقاء، فتشغيل القرص الحراري لعدة ساعات في أشهر رمضان السابقة شديدة الحرارة يجعل درجة حرارة الغرفة لا تحتمل.
ووسط الخلوة التي يفرضها الأسرى على أنفسهم، تكون هناك أحداث جسام تفرض عليهم قطع الخلوة ومتابعة الأخبار كما حدث في الاعتداءات الإسرائيلية المتعددة على غزة، كان أصعبها على نفس بريعم حرب 2014 التي فقد فيها خمسة من أفراد أسرته دفعة واحدة "شقيقه واثنين من أبناء أشقائه وعمه وابن عمه".
يقول بأسى: "كان حادثًا بالغ الصعوبة على النفس خاصة أننا أسرى غزة كنا محرومين من زيارة أهلنا، فأنْ نفقدهم دون أن نستطيع رؤيتهم وتوديعهم أمرًا ليس بالسهل أبدًا".
يشار إلى أن الأسير المحرر محمد قاسم كان قد تحرر من السجن في فبراير/ شباط 2021 بعد قضائه أربعة عشر عامًا، في حين تحرر الأسير بريعم في ديسمبر/ كانون الأول من العام نفسه بعد قضاء مدة مماثلة.