خرج الخليفة العباسي الثالث أبو عبد الله محمد بن المنصور الملقب بـ"المهدي" مع عسكره، ثم انفرد عنهم، فاجتاز برجل على ماء، فقال: ألك طعام؟ قال: نعم! وقدم إليه سفرة كانت معه، فأكل المهدي ثم غسل يده. فقال له الرجل: أصلحك الله! معي شراب فهل لك فيه؟ قال: نعم! فشرب، فلما انتشى قال للرجل: أتعرفني؟ قال: لا. قال: أنا صديق لوزير أمير المؤمنين، وسأسأله في أن يسبب لك أسباباً تنتفع بها؛ ثم شرب قدحاً ثانياً، وقال: أتعرف من أنا؟ فقال: لقد قلت إنك صديق لوزير أمير المؤمنين. فقال: أنا وزير أمير المؤمنين.
ثم شرب ثالثاً. وقال: أتدري من أنا؟ فقال: قل لكي أرى. قال: أنا أمير المؤمنين. فسد الرجل ركوته ونحاها ناحيةً، فقال له المهدي: ما لك عجلت برفعها؟ قال: شربت ثلاثة أقداح فادعيت الخلافة؛ فإن شربت الرابعة ادعيت النبوة، فليس بيني وبينك عمل. فضحك المهدي وأدركته الخيل فجعلوا يترجلون ويسلمون عليه بالخلافة، ثم ركب المهدي وأمرهم بالتحفظ على الرجل؛ فلما تيقن الرجل الأمر سألهم أن يقربوه من أمير المؤمنين، فقربوه منه. فقال: يا أمير المؤمنين، نصيحة، فأدناه، فقال: ما رأيت أصدق منك في دعواك، وغن ادعيت الرابعة، فأنا أول مؤمن بك. فضحك المهدي منه وأمر له بصلة وضمه إلى ندمائه.
المهدي وأحد المصلين
قدم المهدي المدينة، فخرج ليلةً إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفياً ليصلي، فبينما هو كذلك إذ جاء مدني فقام إلى جانبه يصلي، فلما قضى صلاته قال للمدني: أقدم خليفتكم؟ قال: نعم! فعل الله به وفعل وأراحنا منه، وجعل يدعو على المهدي وانصرف؛ فدخل عليه الربيع؛ فقال: يا ربيع؛ جلس إلى جانبي البارحة مدني فما ترك دعاءً إلا ودعا به علي. فقال: أتعرفه؟ قال: نعم، إذا رأيته! ثم ركب المهدي واجتمع أهل المدينة ينظرون، فوقعت عينه على الرجل؛ فقال: يا ربيع؛ ألا ترى الرجل الذي صفته كذا وكذا! هو ذاك صاحبي، فأمر به الربيع فأخذ، فلما رجع المهدي دعا به. فقال: يا هذا، هل أسأت إليك قط؟ قال: لا؛ قال: فهل لك مظلمة تطالبني بها؟ قال: لا، قال: فما دعاؤك علي حين صليت إلى جانبي؟ فقال المدني: فديتك والله! وعتق ما أملك؛ وامرأتي طالق إن لم أكن أغير كنيتي في اليوم مرتين وثلاثاً للملال. فضحك المهدي وأحسن صلته.