فلسطين أون لاين

في أول زيارة منذ عامين 

تقرير "نفحة" شوق تهب على قلوب أمهات أسرى غزة وتروي عطشهن للقائهم

...
صورة أرشيفية
غزة/ يحيى اليعقوبي:

لم تغمض جفنيها طوال الليلة، بقيت تتقلب في فراشها تغلبها الأفكار عن شكل لقائها الأول مع ابنها الأسير رائد الحاج أحمد (39 عامًا) منذ سبع سنوات، تفكر في ملامحه التي غيرها الزمن؛ تخيلت نفسها تعانقه، لكن سرعان ما تلاشى هذا الخيال كمن ترمي حجرًا في بقعة ماء أمام واقع السجن الذي يفصل عازلٌ زجاجي بين الأسير وذويه.

بقيت أم رائد مستيقظةً حتى لا تفوتها الساعة الرابعة فجرا، وهو موعد تحرك باص اللجنة الدولية للصليب الأحمر الذي نقل  في التاسع والعشرين من مارس/ آذار الماضي،  37 فردًا من عائلات أسرى قطاع غزة لزيارة 23 أسيرًا في سجن "نفحة" لأول مرة منذ أكثر من عامين بعد حرمان الاحتلال إياهم من زيارة أبنائهم بدعوى فيروس "كورونا". 

بخطواتٍ بطيئة تقطعُ الحاجة أم الرائد التي طرقت أبواب الستين من عمرها، الشباك تلو الآخر وهي تسير في ممرٍ داخل السجن يجلس كل أسير أمام أمه أو زوجته ويفصل بينهم عازل زجاجي كجدار فصل لا يسمح لهم بعناق أو مصافحة تبرد نار الشوق سرعان ما مسحت دموعها ما إن قابلت عيناها عيني ابنها

"والله كانت زيارة حلوة وشعور لا يوصف، شوفتي لابني بالدنيا كلها".. في صوتها يتزاحم الحزن والفرح معًا، عبر الهاتف تشعر بعمق الحزن يرافق كلامها "كانت المشاعر مختلطة؛ فرح، وحزن، خاصة أني لم أره منذ سبع سنوات، تمنيت لو أن باستطاعتي احتضانه".

تغمر حديثها ضحكة بلهجة عامية تعيد رسم صورة اللقاء "شفته ومن كتر الفرحة ما ركزتش في ملامحه، كنت قاعدة على الأرض ومش حاسة بنفسي، ما حبيت أبكي قدامه عشان بكره إنه نبين للاحتلال إنه إحنا ضعاف".

أبواب الرفض

على مدار سبع سنوات لم تكل ولم تمل الحاجة أم رائد من التوجه للمراكز الحقوقية، طرقت كل الأبواب لكي تحصل على فرصة لمعانقة ابنها الأسير، لكن كان "الرفض" هو رد الاحتلال على المطالب الإنسانية لهذه الأم، "صعب كتير الأمر، أنت بتتصور تكون تشوف ابنك كل شهرين وفجأة يمنعوك سبع سنين".. خففت زيارتها الأخيرة واقع الألم الذي استحضرته.

سيخرج رائد بعد ثلاث سنوات وستستطيع والدته احتضانه، لكن الحال في الخارج لن يكون كما غادره رائد، ففي غيابه تزوج إخوته الأربعة، توفيت جدتاه وجده وعمه، واثنان من أخواله، واثنتان من زوجات أخواله، شقيقه زوج بناته وهو ليس موجودًا، ابن عمه الذي كان طفلاً عندما سجن الاحتلال رائد أعلن إشهاره قبل أشهرٍ، وهذا التغير يدب الخشية في قلب والدته.

وتقول أم رائد: "أمنيتي أن يتحرر وأنا في قوتي وصحتي حتى أكون سعيدة به وأفرح به وأزوجه فأنا الآن أتممت الستين عامًا من عمري".

طوال فترة أسره استطاعت أم رائد احتضان ابنها مرةً واحدة، لكن في هذه أيضًا نغص الاحتلال فرحتها، تستذكر التفاصيل: "عندما أُبلغت أن الاحتلال وافق على التقاط صورة لي مع رائد، هيأت نفسي لذلك، وعندما وصلت السجن منعت من التقاط الصورة بحجة تبقي ثلاثة شهور على إتمامي خمسين عامًا (الموعد الذي يسمح الاحتلال لذوي الأسرى بالتقاط صورة مع أبنائهم) وانتظرت ثلاثة أشهرٍ".

" يومها لم أتمالك نفسي من شدة الفرحة حينما عانقته فكان نفس شعور فرحتي حينما أمسكته بين يدي لحظة ولادته" تضيف أم رائد .

اتصال وفرحة

السابع والعشرون من مارس/ آذار، اتصال يرد والدة الأسير إسماعيل بدران، المتصل يدخل في أطراف الحديث بعدما عرّف نفسه "بدكم تزوروا أولادكم كمان يومين" لم تتسع الفرحة قلبها التي اخترقت سماعة الهاتف "بجد بتحكي!؟.. الله يفرحك يا رب" وطارت مشاعرها على جناحي الفرح، ثم حملت نفسها وذهبت للسوق تحاول شراء ما يمكن شراؤه من ملابس في أول زيارة لابنها منذ عام ونصف العام بعد اعتقال الاحتلال له شرق السياج الفاصل لقطاع غزة.

تتسابق عبارات الفرح للخروج من فم والدة الأسير وهي تروي لصحيفة "فلسطين" تفاصيل اللقاء الأول "كنت أنتظر اليوم الذي سأراه فيه، من شدة الفرح لم أنم في ليلة الزيارة خوفًا من أن يفوتني الباص، وعندما وصلت لم أنتبه إليه إلى أن سمعت صوته ينادي علي ويؤشر لي بيده من خلف شباك السجن: "يما هيني!" وجلسنا أطمئن على أحواله، لكنه رفض الحديث عما جرى معه خشية من مراقبة الاحتلال للمكالمة".

"أهم شي إني شفته وهدي بالي وباله" قالت.

في أكتوبر/ تشرين أول 2020 اعتقل الاحتلال إسماعيل (21 عامًا) وظل خبره منقطعًا عن العائلة مدة سبعة عشر يومًا لم تنس والدته تفاصيل معاناتهم بالبحث عنه "خشينا عليه وأبلغنا الشرطة عن اختفائه، إلى أن تلقينا اتصالا من مخابرات الاحتلال يفيد باعتقاله لديهم، ثم تأكدنا من اللجنة الدولية للصليب الأحمر أنه معتقل".

في سجن "نفحة" وقفت والدة الأسير حسين اللوح (40 عامًا) تتأمل ملامح ابنها الأسير المريض الباهتة، المعتقل في سجون الاحتلال "الإسرائيلي" منذ 20 عاماً دخله شاباً وبات رجلاً يغزو رأسه الشيب.

تنصت صحيفة "فلسطين" لصوت الفرح المنبعث من والدته بعد لقاء ابنها " كنت في غاية الفرح، رأيته قد كبر أكثر من الصورة التي رأيته فيها قبل عامين ونصف العام؛ يزداد المرض عليه، تمنيت لو كان لدينا متسع ووقت لشراء أغراض له أثناء إبلاغنا بموافقة الاحتلال على زيارته، لكن لا بأس في الزيارة القادمة التي ستكون في شهر يونيو/ حزيران وسنكون على أبواب الصيف سأستشري له ملابس جديدة".

اُعتقل اللوح منذ 28 من إبريل/ نيسان عام 2002، بعد أن اتهمه الاحتلال بالمقاومة، حيث يقضي حكمًا بالسجن المؤبد مدى الحياة، تصف والدته لحظة أسره بـ "المؤلمة خاصة أنها غير متوقعة، لأنه كان يخدم في حرس الرئيس الراحل ياسر عرفات وأثناء عودته من الضفة لغزة أسره الاحتلال".

"تكحلت عيوننا بشوفته وانبسطت كتير" لم تجد والدة حسين أفضل من هذه العبارة تعبر فيها عن فرحتها.