"رؤية الحزن في أعين أحفادها كلما مرّ بهم حدث سعيد" تقتل الفرح في قلب الجدة، فهي تدرك أنه لا شيء أبداً سيعوضهم عن فقدان أمهم بالرغم من أن العائلة جميعها تحفهم مشاعر الحب والدلال، لكن تبقى في قلوبهم غصة ظهرت في أوضح ملامحها وهم يحملون الورود لقبر أمهم الشهيدة في "يوم الأم" يجلسون في سكون فضح ما بقلوبهم من ألم.
استحالة التعويض
فبالرغم من أن الجد والجدة والأعمام وزوجاتهم بجانب الأب وزوجته يبذلون قصارى جهدهم لتعويض الفقد بحياة الأطفال محمود وأحمد وآدم فإن فراق الأم والشقيقة الكبرى التي كانت بمنزلة "أمهم الثانية" من المستحيل تعويضه، تقول جدتهم.
فهم في سن أحوج ما يكونون فيه لـ"حضن أمهم"، فما إن يتسلموا شهاداتهم المدرسية أو يحدث أي أمر مفرح لهم يذهبون لقبرها ليخبروها، وهم لا يغيبون عن قبرها أبداً، يزورونها بشكل يومي خاصة بعد صلاة الجمعة.
تقول جدتهم والعبرات تخنق صوتها: "رغم أن زوجة أبيهم تتعامل معهم بشكل جيد وكذلك زوجات أعمامهم فهم جميعاً يعتنون بدراستهم وطعامهم، لكن الحزن في أعينهم واضح، "فتجد محمود الابن الأكبر يبلغ من العمر 12 عاماً، تارةً يلعب ويلهو مع الأطفال وتارة ينزوي على نفسه".
ولقد تركت صورة أحفادها في "يوم الأم" وهم على قبر أمهم وقد علت وجوههم علامات الحزن أثراً بالغاً في نفسية الجدة، "لقد كان المصاب عظيماً فقدوا أمهم وشقيقتهم الكبرى والوحيدة "لينا" التي كانت أمًّا ثانية لهم تلاعبهم وتعتني بهم".
قضت لينا كل أيام "معركة سيف القدس" لدى جدتها، فكانت تشعر بالخوف الشديد من مجريات العدوان، رغم أن بيتهم لا يبعد كثيراً عن بيت جدتها،" كان يوم عيد الفطر، وأخذت "العيدية" من أعمامها الذين يسكنون في منزل جدتها، وذهبت لمنزلها لتخبئ العيدية لتبتهج بها رفقة صديقاتها ريثما ينقضي العدوان، لم تكد تصل إلى باب المنزل حتى سوته صواريخ الاحتلال الإسرائيلي بالتراب.
دلال وعناية
كان ذلك في الثالث عشر من مايو/ أيار الماضي حين قصفت طائرات الاحتلال الحربية منزلاً لعائلة عيسى في مخيم البريج وسط قطاع غزة؛ ما أدى لاستشهاد منار سلامة "عيسى" (39 عاماً) وابنتها لينا (13عاماً).
تبذل الجدة والعائلة جهوداً مضنية لتعويض الأبناء عن فقدان والدتهم في العشر الأواخر من رمضان الماضي، ولا تعلم كيف سيكون أحوال الصبية الثلاثة في رمضانهم الأول دون أمهم، تقول: "بمجرد عودتهم من المدرسة أحتضنهم وأقبلهم، وإذا أرادوا شيئاً نحضره لهم فوراً، ويقوم والدهم وزوجته دائماً باصطحابهم لنزهات ترفيهية، وكذلك يدللهم أعمامهم وزوجات أعمامهم حتى إنهم أحضروا هدايا لكل زوجات أعمامهم وزوجة أبيهم في "يوم الأم".
وتحرص العائلة على أنْ تجتمع معًا كل يوم جمعة حتى لا تترك لهم فرصة للتفكير في فقدان والدتهم فيقضون وقتهم في اللهو مع أبناء عمومتهم، وأعمامهم.
ومنذ تلك الحادثة ودموع الجدة لا تفارق وجنتيها، لكنها مضطرة للتعالي على جراحها وإبداء مظاهر الفرح باستقبال شهر رمضان حفاظاً على نفسية أحفادها، "امتثالاً لرأي أبنائي سأعلق زينة رمضان في المنزل، وسنحرص على تجمعاتنا العائلية كما في كل عام".
واستدركت بالقول: "لكن لا يمكنني أن أستوعب رمضان دون منار ولينا، فقد كانوا يومياً يأتون إلي بعد المغرب ويجتمعون مع زوجات أعمامهم الأخريات، كل واحدة منهن تحضر صنفاً من الحلوى ونجتمع معاً ونسهر بعد صلاة التراويح جماعة".
وتبين الحاجة "أم محمد" أنها مضطرة للحفاظ على هذه التجمعات العائلية كي لا يشعر أبناء الشهيدة بأي فرق، "سأدوس على قلبي كي لا أرى الحزن والحسرة في أعينهم ولكي تدخل الفرحة قلوبهم في أول رمضان لهم بعد فقدان أمهم".
التعلق الشديد
ولم يكن الحال بأفضل لدى عائلة "صبح" التي فقدت "ريحانة البيت" باستشهاد الوالدة، يقول ابنها أسامة صبح (33 عاماً): "لقد انفرط عقد العائلة باستشهاد أمي، صحيح أن علاقاتنا فيما بيننا طيبة، لكن لم يعد هناك مكان يجمعنا بعد أن سُوي بيت والدتي بالتراب واستشهدت هي وشقيقي الأصغر عبد الرحمن".
كان تعلق أسامة وأشقائه بأمهم شديدًا فهي قد كانت بمنزلة الأب والأم لهم بعد أن استشهد والدهم في عام 2003، "كنتُ أنا الأكبر بين أشقائي وكنت أبلغ من العمر 13 عاماً، رفضت أمي كل عروض الزواج وفضلت تربيتنا خاصة شقيقي الأصغر عبد الرحمن الذي يعاني شللا رباعيا منذ ولادته وكان عمره لا يتجاوز العام حين استشهد والدي".
يستذكر أسامة تعلق والدته الشديد بعبد الرحمن فهي من تطعمه وتقوم بكل احتياجاته وكانت تدعو الله ألا يعيش ثانية واحدة بعدها لأنها كانت تخشى ألا يجد مَنْ يقوم بشؤونه فكأن الله قد استجاب لدعائها فاستشهدا معاً.
ولضيق مساحة الشقة السكنية التي كانت تعيش فيها الشهيدة برفقة أربعة من الأبناء، كان أسامة وشقيق آخر له يعيشان خارج المنزل، في حين لهما شقيقة واحدة متزوجة، "لكننا كنا على تواصل دائم مع أمي، كنتُ أزورها أربع مرات على الأقل في الأسبوع، وأتواصل معها لساعات طويلة عبر الهاتف ونتجمع معاً عندها كل جمعة".
ويشير إلى أنه ألحّ عليها بالخروج من المنزل الذي تعرض للقصف في العدوان الإسرائيلي على غزة عام 2014، أخبرتني أنها ستقضي فقط ليلة أخرى في المنزل وستستخير لترى ما هو الأفضل بحيث تترك المنزل أو تبقى فيه، أغلقت سماعة الهاتف معها فإذ بصواريخ الاحتلال تقلب المنزل رأساً على عقب دون سابق إنذار لتستشهد والدتي وأخي".
ويثير رمضان الأول بعد معركة "سيف القدس" الشجون في نفس أسامة الذي لا يستطيع تخيل رمضان دون والدته الحنون التي كانت تزين المنزل بزينة رمضان والورود والأشجار وتجمعهم في الأيام الأولى من الشهر الكريم وتطهو لهم ما لذ وطاب، وتوصيهم بأنْ يغتنموا الشهر الفضيل في الطاعة لأن الحياة قصيرة.
يقول: "كانت والدتي صوامة قوامة، تعلن حالة الطوارئ منذ ثبوت هلال رمضان، فتقضي ليلها في الصلاة وقراءة القرآن الذي تختمه عدة مرات وتعلنها خلوة فلا تحبذ أي تجمعات بعد الأسبوع الأول من رمضان، فلا يتاح لنا سوى المرور عليها لعدة دقائق والاطمئنان عليها فقط".
وكانت الشهيدة أميرة صبح "أم أسامة" استشهدت يوم 11 مايو من العام الماضي في إثر قصف من الطائرات الإسرائيلية الحربية دون إنذار على شقة سكنية في مخيم الشاطئ لترتقي ونجلها، وتلحق بزوجها الذي استشهد عام 2003.