لم يشرع الله تعالى الصوم لامتحان قدرتنا على مجرد الصبر عن الطعام والشراب، فالإنسان يستطيع أن يقاوم ويحتمل الجوع والعطش، وإنما شُرع الصيام لتهذيب أخلاقنا، وتطهير قلوبنا، وتزكية نفوسنا، وإعدادها، وتهيُّئها للسير على الصراط المستقيم علماً، وعملاً، وسلوكاً، وحالاً، ومقالاً، وقد ورد في سورة البقرة] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ[، وقوله ]شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ...[ الأمر الذي يتطلب من المسلم الصائم أن يتحلى بمجموعة من الأخلاقيات الحميدة، منها حفظ اللسان؛ فحفظ اللسان من الأخلاق الحميدة والصفات الحسنة، والمقصود بحفظ اللسان ألّا يتحدث الإنسان إلّا بالخير، ويبتعد عن قبيح الكلام، وعن الغيبة والنميمة وغير ذلك.
والإنسان مسؤول عن كلّ لفظ يخرج من فمه، حيث يسجله الله ويحاسبه عليه ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾، وهو نعمة كبيرة النفع والأثر إن سُخر في جوانب الخير ومناحيه، وعظيم الخطر والضر، متى أضاع الإنسان رقابته عليه وأطلقه في كل شيء.
فعلى المسلم الصائم أن يحفظ لسانه، ويترك الرفث والصخب، والرفث يكون بالأقوال، سواء كان هذا الرفث فيما بين الرجل والمرأة مما قد يؤدي إلى الوقوع في الحرام والمحظور، أو فيما بين الناس مع بعضهم.
والمعروف أن كثيراً من الناس يلجؤون إلى هذا الرفث في الحياة اليومية، حتى أن حديثهم العادي لا يكاد يخلو من القول الرفث، وهذا يتنافى بالكلية مع الصيام الذي هو تطهير للقلب وتهيئته لتنزّل الرحمات من الله سبحانه وتعالى، وطالما أن الرفث في القول فهو يشمل كل أنواع الرفث؛ كالسباب، والشتائم، وقبائح الألفاظ، والخوض في أعراض المسلمين، والغيبة، والنميمة، ونحوِ ذلك مما يعد رفثاً في القول، أو استخداماً للسان في غير ما خلقه الله سبحانه وتعالى له، فـ"ليس المؤمن بالطَّعَّان، ولا اللَّعَّان، ولا البذيء، ولا الفاحش"، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فصيام المؤمن إنما هو طهرة للسانه؛ ليعوّده الخير ويهذّب أقواله حتى لا ينطق لسانه إلا بما هو خير له من أمور دينه ودنياه. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عن الصائم: "لا يصخب"، وهذا معناه أن يتحلى بالأخلاق الكريمة، فلا يصرخ، ولا يعبث في القول، وإنما يكون حليماً، عفوّاً، صفوحاً، معرضاً عن الجاهلين، ويكون صومه سبباً في حمله على الحِلم، وسعة الصدر الأخلاق، فلا يكون ممن يُشار إليه بالبنان بأنه من السفهاء، أو الطائشين، أو الخارجين عن الآداب العامة.
و"من صمت نجا" كما أورد عبد الله بن عمرو عن رسولنا الأعظم"، وعن سهل بن سعد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة"، وهذا يدل على أن أعظم البلاء على المرء في الدنيا لسانه وفرجه، فمن وقي شرهما وقي أعظم الشرر.
وذُكر في الأثر أن الصحابة دخلوا على أخ لهم في مرضه ووجهه يتهلل، فسألوه عن سبب تهلل وجهه، فقال: ما من عمل أوثق عندي من خصلتين: كنت لا أتكلم فيما لا يعنيني، وكان قلبي سليمًا للمسلمين.
أما الكذب فهو من عظيم آفات اللسان التي يجب الحذرُ منها، وهو دليل على ضَعف شخصية صاحبه، وكذلك الغيبة والنميمة، سواء كانت بالهمز -وهو الفعل-أو باللمز –وهو القول-قال تعالى: ﴿هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ﴾، وأيضًا إفشاء الأسرار، فهو باب التفرق، والاختلاف، ونافذته السب واللعن لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لَا يَكُونُ اللَّعَّانُونَ شُفَعَاءَ، وَلَا شُهَدَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ".
الكلام فيما لا يعني، وهو مِن معاول هدمِ البناء الخلقي، ولو كان كلامُنا فيما يعنينا؛ لهُدينا ووُقِينا، المراء، والجدال، شَهادةِ الزُّور، انتهارِ الفُقَراءِ والضُّعَفاءِ واليتيم والسَّائلِ ونحوهم، المَنِّ بالعَطِيَّةِ ونحوِها، والطعن في الأَنْسَابِ الثَّابتةِ في ظاهِر الشَّرْعِ.