بهدوء تناول ضياء طعام الغداء مع عائلته على مائدة واحدة كانت هي مائدة الوداع الذي لم يشعر به أحد، ودّع والديه وإخوته الثلاثة بنظراتٍ عانقهم بها من طرفٍ واحد؛ وعلى ذات المائدة لم يُشاهدوا منه سوى ابتسامته المُعتادة، خرج كما يخرجُ كلّ مرةٍ كأنَّ الأمر طبيعي، انتظره والداه ليعودَ مع حلول المساء، لكن هذه المرة لم يرجع إلا بخبرٍ زُفَّ به شهيدًا.
ضياء حمارشة شابٌ لم يتجاوز ربيع عمره خمسة وعشرين عامًا من بلدة يعبد جنوب جنين، رفض خيار الاستسلام للاحتلال فقال "لا تصالح، لا تساوم"، ليرسم نهجًا سبقه إليه شهداء عبقوا طريق الحرية برائحة العزة والكرامة، ويرحل وهو في جعبته رقاب خمسة مستوطنين قتلهم في عملية إطلاق نارٍ نفذها في (تل أبيب) في الداخل المحتل.
اخترقت رصاصات ضياء مشاريع "التعايش والتطبيع" الذي سعى الاحتلال لترسيخها في "قمة النقب"، ليذكر الاحتلال أن لا وجود له على أرض فلسطين، وأن حزام الأمان الذي يبحث عنه والهدوء الذي يريده يتخفى وراء عاصفة غضب، وأن الاحتلال لم يحسن قراءة درسٍ كتبه ضياء بدمائه حينما حمل سلاحه ونزل في شوارع (تل أبيب) ووضع رصاصته في قلب دولة الاحتلال بأذرعها الأمنية والسياسية وليس في صدرِ من طالتهم من المستوطنين فقط.
تتجول في صفحة الشهيد على "فيس بوك"، فيخبرك ضياء بمبادئ وثوابت وكأنها وصية تركها لمن سيهتدي لذات الدرب والطريق فتعثر في منشور له على هذه العبارة "من أحب لقاء الله؛ أحب الله لقاءه"، وأنت تتجول في صفحته لن تعثر على صورة واحدة وهو يحمل بندقية.
ضياء الذي كتب قبل استشهاده: "اللي باع 48 و67، ما رح تفرق معه باقي الأرض"، انتقد تنازل السلطة في رام الله عن 78% من أرض فلسطين التاريخية للاحتلال، وفي منشور آخر قال "في ناس قدمت أولادها للوطن، وفي ناس قدمت الوطن لأولادها".
رثاه والده في لقاء متلفز قائلًا والحزن ينهمر من صوته: "ضياء إنسان خلوق محترم جدًا، ليس بحاجة لأتحدث عنه فكل الناس تعرفه وتحبه، وهو إنسان ملتزم بعمله، لدرجة لم أفكر بلحظة أنه يمكن أن يصل للوضع الذي وصله، لكن ابني ليس إرهابيًا وواضح أنه تعرض لضغوط كما يتعرض لها أبناء الشعب الفلسطيني، فعندما تخرج من يعبد لرام الله هناك حواجز وكأنك تنتقل من دولة لأخرى".
بعد العملية التي حظر فيها ضياء التجول في كل منطقة وصلت إليها قدماه، انهالت الاتصالات الهاتفية على هاتف الصحفية ليلى حمارشة ابنة خاله، لحظة بدء توارد اسمه على وسائل الإعلام، هي نفسها اختلط عليها الأمر فلم يسبق لها أن رأت ضياء يحمل سلاحًا قط.
تقول حمارشة لصحيفة "فلسطين" عبر الهاتف: "لم نشعر ولو للحظة أنه يمكن أن ينفذ عملية مقاومة، أكيد هذا الشيء يرفع الرأس، فما فعله شيء نفتخر به، والذي أنار به درب أبناء الشعب الفلسطيني ويعيد لنا الأمل أن الاحتلال إلى زوال، وأن الشباب الفلسطيني لا يقبل المساومة على الأرض ولا يقبلوا بانتهاك الحرمات، ولا بعربدة المستوطنين التي شكلت حالة احتقان لدى ضياء وكثير من الشباب".
وضياء بحسب الصحفية حمارشة، أسير محرر اعتقل لدى الاحتلال ثلاث سنوات عام 2018 سرقت زهرة شبابه، وتصفه بأنه "شاب محبوب، امتاز بالأخلاق العالية والمحافظة على الفرائض خاصة صلاة الفجر، شخص حنون جدًا، يعمل بالتجارة مع والده في مجال مبيعات الهواتف الخلوية، يمارس رياضة كمال الأجسام".
وتضيف: "هو شاب مقبل على الحياة، يحب الخروج مع أصدقائه والرحلات، لأجل ذلك عندما شاهدناه ممددًا على الأرض استبعدنا أن يكون هو في بادئ الأمر"، وفق حمارشة.