قائمة الموقع

مازن فقها.. شهيد لم يغِبْ عن حياة زوجته وطفلَيْه

2022-03-17T10:09:00+02:00
مازن فقها

رفعت هاتفها المحمول عند أذنها لتتصل بشريك حياتها مازن فقها وأقرب الناس إليها، لشدة فرحتها حينما قُبلت لدراسة الماجستير في تخصص التاريخ، ثم ما لبثت أن وضعته في جيبها مجددًا، وعادت إلى واقعها ومسحت دمعتها، ترجع بها الذاكرة لصورةٍ التقطتها معه لحظة حفل تخرجها من "البكالوريوس"، فقد فاجأها بحضوره، عندما صعد للمنصة وتسلم معها شهادة تخرجها، فكانت الصورة أشبه بإرث وذكرى تركها لها، لكنه اليوم اكتفى بحضور طيفه.

مازن فقها، شهيدٌ جمع ثلاثية النضال الفلسطيني، فكان مطاردًا وأسيرًا ثم شهيدًا، من مواليد مدينة طوباس شمال الضفة الغربية المحتلة، وأحد محرري صفقة "وفاء الأحرار" عام 2011، وأُبعد إلى غزة بعد الإفراج عنه من سجون الاحتلال التي كان يقضى فيها حكما بالسجن 9 مؤبدات.

لم يترك فقها العمل المقاوم بعد الإفراج عنه، حيث اتهمه الاحتلال بالوقوف خلف عمليات للمقاومة في الضفة الغربية، وبعد صراع وراء الظل خاضه مع الاحتلال اغتاله في 24 مارس/ آذار 2017 بإطلاق الرصاص عليه من مسدس كاتم للصوت أمام منزله في حي "تل الهوى" جنوب غرب غزة، وقدر لزوجته ناهد عصيدة أن تعيش آخر اللحظات معه، إلا لحظة إطلاق الرصاصة الكاتمة حينما عادا من رحلة ترفيهية عائلية.

تجديد الصبر

استمعت صحيفة "فلسطين" إلى زوجة الشهيد بينما كانت تقلب صفحات الذكريات مرةً أخرى في ذكرى استشهاده الخامسة قائلة بعدما أرسلت إلى روحه السلام: "بداية قد يكون الإنسان مصدومًا ويسأل نفسه: كيف مرت الأعوام الخمسة؟، فنحن نشعر بطول الوقت وبمروره، وفي نفس الوقت نشعر كأنَّ الحدث وقع أمس، وتوقف الزمن في لحظة استشهاده، لكننا نستقبل الذكرى بقلبٍ صبور رحب، ونجدد صبرنا وثباتنا وإيماننا بأن الله اختار له الخير واصطفاه وأكرمه بالشهادة".

يتحرك صوتها نحو اليوم الأخير لاستشهاده الذي لا تنسى شيئًا من تفاصيله: "لا يدرك الإنسان أن بعض اللحظات تكون هي أيام وداع، وفي حياتنا كان مازن في آخر ثلاثة أسابيع يعود في وقتٍ مبكر ويحرص على استقبال طفله محمد من رياض الأطفال، وإمضاء وقتٍ كبير معنا، وإخراجنا لأكثر من مكان".

قبل اليوم الأخير، ترك الشهيد لزوجته صورة تصفها بـ"الكنز" استطاعت خلالها التقاط صورة تذكارية لحظة تخرجها، تقف مطولاً هنا "بعد تعب سبع سنوات بدراستي في جامعة النجاح، ثم العودة من الصفر للدراسة في الجامعة الإسلامية لأربع سنوات، ومعاناة التنقل، وتربية الأولاد، والعيش في ظروف حياة مطاردة مع مازن، كان مقررًا عدم حضوره لكنه فاجأني بحضوره".

تفاعل الحضور مع قصة ناهد ومازن، وتعالت هتافاتهم، فتجاوز كل الترتيبات الأمنية أمام هتافات الجمهور، ليصعد إلى منصة التكريم ليشاركها لحظة تسلم شهادة تخرجها من رئيس وأعضاء مجلس الجامعة، وبقيت هي الصورة الوحيدة التي جمعتهما معًا.

يا "توتة الدار"

بعد الاحتفال خرج الزوجان في رحلة عائلية مع بعض المحررين الذين تربطهم علاقات مصاهرة، حضرها صديقه عمر عصيدة (خال زوجته) رفقة زوجاتهم وأطفالهم، كانت الرحلة محاولة منه لتعويضها عن غربتها بعيدًا عن عائلتها، "أمضينا وقتًا جميلاً، كان سعيدًا بتخرجي حتى أن صديقاتي حاولن الاستفسار عن سر "الحنان الزائد" وهن يعرفن أن مازن لا يظهر مشاعره أمام الجميع" ما زالت ناهد تستذكر.

ومع ذات الأجواء، كادت أن تتغير تفاصيل تلك الرحلة في لحظةٍ مُفاجئة؛ فقد اندفع أبو محمد نحو طفلته سما، يحتضنها ويتفقدها بعد أن سقطت على أنفها، تستحضر زوجته صورته: "عندما حمل طفلته بدأ يعتذر لها: "سامحيني الحق علي.. أنا مش منتبه عليكِ" رغم أنني أخبرته أن جرحها بسيط، لكنه أجلسها في حضنه طوال الرحلة".

حل المساء، انفض المجتمعون إلى بيوتهم، عاد الزوجان إلى بيتهما كذلك، كانت المسافة بصحبة صوت المنشد "أبو عرب": "وهدي يا بحر هدي.. طولنا في غيبتنا، ودي سلامي ودي.. للأرض اللي ربتنا، وسلملي عالزيتونة.. على أهلي اللي ربوني".

"في أثناء عودتنا تحدث عن حبه لابنه محمد، وتأمل أن يكون سندًا وإنسانًا ناجحًا، وعندما وصلنا حمل محمد وتركه على فراشه في حين كنت أحمل الأغراض، وأخبرني أنه سيركن السيارة وسيعود، رأيت في نظرة عينيه حزنًا، ورجعت للحظة استماعه لأنشودة "توتة الدار"، وانفعلت ناهد عندما شغلها: "احنا طالعين من أجواء حلوة وانت بتسمع للحزن" لكنه أصر على الاستماع إليها، ونزل ولم يعد إلا محمولاً على الأكتاف بعد اغتياله بمسدس كاتم الصوت".

"بابا بالجنة ببنيلنا بيت وكلنا حنروح عنده".. هذه القصة التي روتها لأبنائه عندما استيقظوا في الصباح وتدرجت في الرواية.

تقول عصيدة: "وصلت لمرحلة أن طفليَّ يستطيعان رواية قصة اغتيال والدهما كاملة، لأني أيقنت أنهما سيعرفان ذلك يومًا ما، عملت طوال خمس سنوات حتى يتقبلا فكرة استشهاده، ويكونا فخورين بذلك، حتى لو سألتهما: هل تتمنيان عودة والدكما؟ سيجيبان: "لا"، والسبب أنهما سعيدان بالمنزلة التي حصل عليها والدهما بالجنة، ويريدان أن يعملا أعمالاً صالحة بالصدقة وحفظ القرآن ليجاوراه بالجنة، مقتنعين أن والدهما ضحى بنفسه لأجل الوطن".

كثيرة هي اللحظات التي مرت على عائلة الشهيد فقها، وتمنوا أن يشاركهم بها، لحظة دخول ابنه محمد المدرسة، الذي كان يبلغ من العمر لحظة استشهاد والده أربع سنوات، واليوم أتم التاسعة، وأصبح في الصف الرابع، في حين دخلت سما في الصف الأول، واحتفلت والدتها بشهادة تفوقها وهي التي لم تكن تتجاوز عامًا ونصف العام لحظة استشهاده، تزيل أقفال الصمت عن صوتها الحزين: "كانت أمنيتي أن يرى تعلق ابنيه به، كثيرة هي المناسبات التي احتجناه فيها، غاب جسده وحضر روحًا وقدوةً، يحفنا بكل خطواته، فهذه النجاحات نصنعها لأجله".

يحاول محمد أن يكون سندًا لأمه وشقيقته سما، كما كان يريده والده، كبر وهو لا يزال طفلاً عاشها بلا دفء والده، يكرس كل حياته لأجل أن يُرضي والدته، بحفظ القرآن، وأن يحصل على السند المتصل مثله، حتى أنه يدخر مصروفه في حصالة لتقديم صدقاتٍ عن روحه، يقرأ سورة "الكهف" كل يوم جمعة مع والدته، كما كان يفعل والده.

أما سما فهي الأخرى متعلقة بوالدها تشاركه كل تفاصيل حياتها، تطلب من والدتها شرح تفاصيل كل الصور التي جمعتها به ونسيت تفاصيلها، ومؤخرًا، شاركت بنشاط مدرسي للجالية الفلسطينية بإسطنبول، وشاركت برسم صورة والدها. 

اخبار ذات صلة