فلسطين أون لاين

حكاية جاسوس عاش في غزة وموته بقي لغزًا

تقرير "الهليون".. رواية تؤرخ للمقاومة ولا تؤسطر للجاسوسية الإسرائيلية

...
الكاتب طلال أبو شاويش من غزة
غزة/ مريم الشوبكي:

من يعيش في مخيم الشاطئ لا بد أن يكون قد سمع بقصة "الهليون"، ذلك الشخص الذي عاش في ستينيات القرن الماضي بين أهالي المخيم دون أن يكتشفوا حقيقته، إلا بعدما نشرت القناة الثانية الإسرائيلية تقريرا عن ضابط يدعى ديفيد هيلين تم زرعه في غزة.

التقط الكاتب طلال أبو شاويش من غزة، شظايا الحكاية التي يتناقلها سكان مخيم الشاطئ حتى اليوم، وغاص أكثر في تفاصيل الحكاية، وقرأ العديد من الكتب ليعرف أكثر عن "الهليون"، لم يذهب لتكريس أسطورة إسرائيلية، بل أبرز العمل المقاوم الذي كان سائدا في تلك الفترة واستدعى زرع هذا الجاسوس.

لم يدُر في خلد الذين عايشوا "هليون" ولا يزالون على قيد الحياة حتى اليوم، بأن ضابطا يمكن أن يتقن دور "الأبله" ويعمل في مهنة وضيعة يشمئز منها الناس، حيث كان ينضح آبار الصرف الصحي يدويا، والتي كان يلجأ إلى حفرها اللاجئون داخل منازلهم بسبب عدم توفر شبكات الصرف الصحي في تلك الفترة، ويتقاضى نظير ذلك مبلغا زهيدا وقطعة من الصابون، وهي مهنة أتاحت له حرية الحركة ودخول جميع بيوت المخيم.

أشخاص عايشوه

"الهليون" قصة جاسوس إسرائيلي عاش حياته بين اللاجئين في مخيم الشاطئ بغزة قرابة 23 عاما، في الفترة الممتدة ما بين ١٩٦٥ و ١٩٨٩.

حمل هذا الاسم نسبة إلى النبتة المعروفة التي تنمو وسط النباتات الشوكية في فصل الشتاء، أطلق عليه الناس هذا الاسم في مخيم الشاطئ وعرفوه به عندما لجأ إليهم مدعيًا أنه لاجئ فلسطيني قادم من مخيم شاتيلا في لبنان، بعدما فقد أهله إثر غرق مركب يقلهم خلال رحلة هروبهم من شمال فلسطين المحتلة بحرا إلى لبنان، إبان وقوع النكبة عام 1948.

يقول أبو شاويش لـ"فلسطين": "قبل كتابة هذه الرواية كان لا بد من الاطلاع على كل ما كتب عن هذه المرحلة التاريخية الهامة، وكذلك كل ما عرف أو كتب عن الهليون، وعن ما سمح الاحتلال بنشره حوله، وما كتبه كتاب محليين عن تجربته مثل القصة القصيرة لغريب عسقلاني، وقصة عبد الحق شحادة، وسليم عيشان، وعاطف سلامة، وجميعهم من قطاع غزة".

ويضيف: "كذلك أجريت عدداً من اللقاءات مع أشخاص عايشوا الهليون شخصيا بل كانوا أقرب الناس إليه، إضافة إلى زيارتي للمكان الذي كان يقطن فيه في مخيم الشاطئ، روح المكان منحتني طاقة كبيرة للغوص في الشخصية، والتعرف على محالها الحيوي، وبناءها في الرواية بصورة عميقة".

ليست رواية جاسوسية

قضى الكاتب عامين بين البحث، والقراءة، وكتابة الرواية، حتى تم نشرها مؤخرا بين دفتي 336 صفحة.

يؤكد أبو شاويش أن الرواية وإن حملت هذا الاسم إلا أنها ليست رواية جاسوسية، فالهليون عاش في مجتمع متكامل وفي مناخ سياسي وأمني مضطرب، وكان المعادل الموضوعي للاحتلال هو المقاومة.

ويبين أن الرواية عرضت جزءا من تاريخ هذه المرحلة الهامة، وخاصة تجربة العمل الفدائي، وقدمت منصور ليمثل هذه المقاومة فيما مثل الهليون الاحتلال، أي أن الرواية فيها بطل إيجابي هو منصور، وآخر سلبي هو الهليون الذي زرعه الاحتلال وسط السكان.

تبدأ الرواية بضابط جهاز الشاباك الإسرائيلي "يوشع بن دافيد"، الذي خدم سنوات طويلة في هذا الجهاز، وأمضى أغلبها في غزة، والتي كانت فيها نهاية والده "ديفيد هيلين" أو "الهليون" كما يلقبه سكان المخيم، نهاية أرقته سنوات طويلة وهو يبحث عن السبب الحقيقي لموت أبيه، هل مات بشكل طبيعي أم أنه قتل؟ سؤال دفعه للبحث في كافة الدوائر الأمنية عندهم ولكن من دون إجابة شافية، إلا أن بصيص أمل تراءى له حين علم من أحد أصدقائه في الجهاز بسماح الاحتلال لأحد المقاومين السابقين في غزة "منصور" للعلاج في أحد المستشفيات الإسرائيلية، بعدما أعياه المرض.

يرمز منصور في الرواية إلى المقاومة التي كانت متقدة ومتصاعدة عقب هزيمة يونيو/حزيران 1967 وفي سبعينيات القرن الماضي، وقضى نحو نصف عمره في سجون الاحتلال (25 عاما)، فتكت به الأمراض، ونال منه السرطان، وحصل على تصريح إسرائيلي بعد ضغوط منظمات حقوقية لوقف الرفض الإسرائيلي المتكرر للعلاج في أحد المستشفيات الإسرائيلية، وبسبب عدم توفر العلاج اللازم لحالته في مستشفيات غزة المتواضعة.

في الطريق إلى حاجز بيت حانون "إيريز"، الذي يفصل غزة عن الداخل المحتل، يسترجع يوشع ذكرياته فيها وقسوته الشديدة مع المعتقلين الفلسطينيين في التحقيق معهم. تذكر منصور وصموده الخارق، في حين يرافقه سؤال طوال الرحلة: هل من الممكن أن يستجيب منصور لطلبي أو لرجائي؟ هل سينسى عناده وصلابته وهو في ضعفه ومرضه ويخبرني عن الكيفية التي مات بها والدي؟.

يلتقي يوشع منصور داخل سيارة الإسعاف، ويدور بينهما حوار حرص أبو شاويش في صياغته على الكشف عن ابتزاز (إسرائيل) لمرضى غزة، وأساليبها في المساومة بالترغيب والترهيب.

فوجئ منصور بسؤال يوشع عن "الهليون"، وكانت المفاجأة الأكبر عندما أخبره أنه والده، ولا يريد سوى معرفة حقيقة موته، كونه كان مسؤولا كبيرا في غزة في تلك الفترة، ويعرف ما لا يعرفه غيره حتى في الأوساط الأمنية الإسرائيلية، غير أن منصور الذي لم ينل مرضه من ذاكرته بما تختزنه من ذكريات مؤلمة عن هذا الضابط "المتوحش" وتسببه في قتل أحد المقاومين أثناء التحقيق معه، ينفي معرفته بالحقيقة بأسلوب يُبقي الشك في نفس يوشع.

نهاية مفتوحة

لحظات مرت بعد مغادرة يوشع سيارة الإسعاف "خائبا" مثقلا بالتساؤلات، ليأتي القرار بإلغاء تصريح العلاج لمنصور وعودته إلى غزة، فقد هدده يوشع بأنه سيموت في غزة إن لم يتجاوب معه.

عاد منصور إلى غزة، وبينما كانت زوجته -التي رافقته أثناء رحلة علاج لم تكتمل- تبكي حزنا، شعر هو براحة شديدة كأن نوبات الألم تتراجع تدريجيا، وأسر في نفسه: "يجب كتابة رواية عن ذلك الهليون، سنكتبها كما نعرفها نحن، وليس كما يعرفونها هم"، ليترك أبو شاويش الرواية على نهاية مفتوحة وغامضة. 

كان "الهليون" قوي البنية، قليل الكلام، ويرفض بشدة تناول الطعام الذي يقدم له في بيوت المخيم ويكتفي بأجرته. كانت حياته غريبة، غير متزوج ولا يسأل عنه أحد، لكن تصرفاته لم تكن مثيرة للشك لدى سكان المخيم الذين تعاملوا معه كرجل "مجذوب" ربما فقد عقله بعد فقدان أهله كما كان يدعي حينها.

في نهاية سبعينيات القرن الماضي افتقد سكان المخيم الهليون بضعة أيام، ليجدوه ميتا داخل غرفته الصغيرة، وتطوعوا من أجل دفنه في مقبرة "الشيخ رضوان"، لتقوم في مساء يوم الدفن مروحيات إسرائيلية بعملية إنزال داخل المقبرة، يقودها يوشع دون علمه بأمر "الجثة" التي انتزعوها من قبرها ونقلها للدفن في (إسرائيل) -حسب رواية أبو شاويش- واعتقد وقتها سكان المخيم أن هدف العملية سرقة جثامين الشهداء، كما أشاع عملاء الاحتلال وقتها.

ويلفت الكاتب أن الرواية هي مزيج بين وقائع حقيقية وخياليه بنسب متساوية، لتبهيت الأسطورة الإسرائيلية وطرح أسئلتها الغامضة وإخضاعها للتفكير والنقد وفتح الآفاق أمام اجاباتنا الوطنية، وروايتنا.