لا يكاد أهل الشهيد يامن جفال ينقطعون عن البكاء قليلاً على فراقه، ليعاود شقيقه التوأم ريان إثارة أحزانهم من جديد، فـ"ريان" لا يستطيع بإدراكه المحدود أنْ يستوعب فراق شقيقه الحنون، وهو يسأل عنه بلغته الطفولية كل يوم، ويتحدث لصورته المعلقة في مدخل المنزل، كل صباح، ويقبله كأنه ما زال على قيد الحياة.
فـ"ريان" المصاب بمتلازمة داون كان الشهيد يامن يغمره بحنانه، ولا يفوت يوماً دون أن يحضر له وهو عائدٌ من دراسته "كيساً من الحاجيات"، تقول والدته سميرة جفال بصوت ممزوج بالأسى: "لقد كان طيباً للغاية، شديد العطف على أشقائه وخاصة ريان الذي يثير أحزاننا وهو يتكلم لصورة يامن ويقبلها صباحاً وهو ذاهب لمدرسته (مدرسة لذوي الاحتياجات الخاصة)، فهو لا يستطيع أن يستوعب فكرة غيابه".
ولم يكن يامن حنوناً فقط على "ريان" بل أيضاً على أشقائه وشقيقته الوحيدة، "كان يخصني بالحنان والعطف، فكوني أعاني من مشاكل صحية، يأتيني كل صباح قبل الذهاب لمدرسته، يسألني عما إذا كنت أريد تناول الإفطار أو الشاي، فأطلب منه أنْ يفطر هو ولا يهتم لي، فكان يرد قائلاً: إذا أنتِ أفطرتِ أنا بشبع".
كان يامن يساعد أمه في إنجاز أعمال المنزل قبل ذهابه للمدرسة، "وعندما يخرج من المنزل يتصل بي بما يتجاوز العشر مرات يطلب مني ألا أقوم بأي شيء من أعمال المنزل وأنْ أتركها ليقوم بها عند عودته".
لم تستطع "جفال" إكمال حديثها عندما تذكرت موقفها الأخير مع يامن وهو يعتني بعصفورٍ يربيه، إذ قال لها "أنا كالعصفور لا يمكن أنْ أسمح للاحتلال باعتقالي وأن تتعذبي ورائي كما تعذبتِ باعتقال شقيقيّ محمد ومحمود، أنا لن أتعبك"، وكأنه كان يعرف بأنه سيستشهد "ولنْ أتنقل من سجن لسجن لزيارته".
كبر قبل أوانه
فيما يبين والد الشهيد نافذ جفال أن ابنه "يامن" لم يعش طفولته، وكبُر قبل أوانه بفعل الظروف الأسرية التي عاشها، "فقد اعتقلتُ ثماني مرات ثم اعتقل شقيقه محمد وهو في الثالثة عشرة من عمره وأصيب برصاص الاحتلال في الرابعة عشرة".
ولم يكن محمد الوحيد الذي تعرض للاعتقال، فقد تعرض شقيقه محمود للاعتقال ثلاث مرات وأصيب برصاص الاحتلال ثلاث مرات أيضاً، "فمنذ عهد والدي عام 1978م والعائلة تتعرض للاعتقال لدى قوات الاحتلال".
هذه الأجواء حرمت "يامن" من التفكير بطفولته كبقية أطفال العالم، بل كان جل تفكيره ينصب على نصرة الأسرى والشهداء المحتجزة جثامينهم، فلم يكن يترك فعالية تنصرهم إلا ويشارك فيهم، حتى أن والد الشهيد بهاء عليان وصفه بالرجل الصغير الذي لم يترك فعالية لذوي الشهداء المحتجزة جثامينهم إلا وكان في طليعتها.
يستذكر والده المواقف الأخيرة لـ"يامن" بالقول، قبيل استشهاده غير صورة ملفه الشخصي على "فيسبوك" لصورة الشهيد باسل الأعرج، وصادف والدته في الشارع، فأصر على تقبيل يدها أمام كل الناس، وقابل صديقاً له قائلاً له: "أنا آخر يوم يمكن أشوفك فيه"، وكأنها إشارات على أنه ذاهب ولن يعود، لم ندركها إلا بعد أنْ فارقنا، يقول والده.
فالحياة الطبيعية أمر محروم منه أهالي "أبو ديس" وأطفالها في ظل تمركز الاحتلال على حاجز عسكري "يطلقون عليه حاجز الموت" يستهدف جنوده الفلسطينيين المارين منه بالاعتقال أو القتل، فقد ارتقى عدة شهداء من الفتية برصاص جنود الموقع، فيما اعتُقل كثيرٌ منهم، ناهيك بالإصابات.
ويؤكد جفال أن ابنه قتل بـ"دم بارد"، "فما إنْ تناهت إلى مسامعي الأخبار عن إصابة ابني برصاص الاحتلال حتى هرعت وزوجتي للمكان، وقد كان بعيداً عن الموقع العسكري ما ينفي ادعاءهم بأنه كان يمثل خطراً عليهم وكان بإمكانهم اعتقاله لكنهم تعمدوا قتله".
إعدام بدم بارد
ويضيف: "تركوه ينزف لمدة 45 دقيقة على الأرض بعد إصابته بحسب شهود العيان في المكان، بجانب أن تقرير الطب الشرعي أثبت أنه مصابٌ برصاصتيْن الأولى مزقت قلبه والثانية استقرت في صدره، ما يثبت حقدهم وتعمدهم القتل، فهي سياستهم العنصرية القائمة على "قتل كل ما هو فلسطيني".
وتابع: "حتى عندما وصلنا مكان الحادث أمطرونا بالرصاص المطاطي والغاز المسيل للدموع فلم نستطع الاقتراب منه، ثمّ احتجزوا جثمانه لمدة يومين، وأرادوا أن يسلموننا جثمانه بشرط أن يكون ذلك في الساعة الثانية فجراً وألا يشهد جنازته سوى عشرة أشخاص وهو ما رفضناه فهذا القانون خاص بمدينة القدس المحتلة والاحتلال يُعامل أهل أبو ديس على أنهم جزء من الضفة الغربية".
وبعد محاولات قانونية تسلمت العائلة جثمان يامن وزفته في موكب جنائزي مهيب، "أحاول التماسك أمام أمه المنهارة لكن الأمر في غاية الصعوبة، ففقدان ابن بار كـ"يامن" أمرٌ ليس بالهين أبداً"، يضيف والده.
وكان جيش الاحتلال قد أعدم الفتى جفال (16 عاماً) بدم بارد في السادس من مارس الجاري في بلدة أبو ديس بالقدس المحتلة، واحتجز جثمانه ليومين قبل أن يسلمه لذويه.