شهدت العلاقات التركية الإسرائيلية تطورًا لافتًا في الآونة الأخيرة إذ توجت بزيارة رئيس الكيان الإسرائيلي "إسحاق هرتسوغ" لأنقرة، التي تعد الأولى من نوعها منذ (14) عامًا، إذ كُشِف عن بعض دواعي هذه الزيارة والقضايا التي طرحت للنقاش وكان أبرزها وفق ما صرح به الإعلام التركي وبعض المنصات الإعلامية التابعة للاحتلال بحث العلاقات الثنائية والتعاون في مجالي الطاقة والدفاع، ومستجدات الملف الأوكراني الروسي، وملف شرقي البحر الأبيض المتوسط، ومشروع مد خط أنابيب الغاز من الكيان الإسرائيلي لأوروبا مرورًا بالأراضي التركية.
هذا إضافة لأسباب أخرى أعلنت رسميًّا ومن خلال الرئيس التركي، إذ قال أردوغان في مؤتمره الصحفي عقب المحادثات: إن تحسن العلاقات التركية الإسرائيلية مهم جدًّا لدعم الاستقرار والسلام في المنطقة، وأضاف أنه يعتقد أن هذه (الزيارة تاريخية) وأنها تعد نقطة تحول جديدة في العلاقات بين الجانبين، وفي ذات الوقت أشار إلى خطوات أخرى لترتيب العلاقة وتطويرها منها إشارته لزيارة تركية قريبة للكيان الإسرائيلي من خلال وفد على رأسه وزير الطاقة والموارد الطبيعية، لكن الرئيس أردوغان يعلم جيدًا حساسية هذه الزيارة وتداعياتها وأثرها على الشعب الفلسطيني وشعوب الأمة وحتى شريحة واسعة من الشعب التركي والذين يرفضون الزيارة جملة وتفصيلا ولا يرون أي مبرر لهذه العلاقة بل يرون أنها سقوط مدوٍّ وبعضهم يرى أنها تحول نحو مسار التطبيع في الركب الإسرائيلي.
لذلك كان حريصا على التأكيد أن القضية الفلسطينية كانت حاضرة في هذه المباحثات؛ إذ أشار إلى أنه أكد لنظيره الإسرائيلي أهمية حل الدولتين، وأنه أبلغ "هرتسوغ" وفق قوله بأن لدى تركيا حساسية من السياسة الإسرائيلية تجاه فلسطين والوضع التاريخي والديني للقدس، إذ أراد من وراء هذه التصريحات تحقيق عدة أهداف أبرزها: 1- امتصاص حالة الغضب في العالم العربي والإسلامي والتخفيف من حدة الانتقادات الحادة التي وجهت له نتيجة استعادة العلاقة مع الاحتلال، 2- تطمين الشعب الفلسطيني بأن الرئاسة التركية لن تتخلى عن مساندة الشعب الفلسطيني في كل الظروف والأحوال، 3- الإشارة للاحتلال بأن تركيا وهي تنظر لمصالحها وترتب أوراقها وتتقارب معكم هي تولي اهتماما كبيرا لقضية فلسطين ويزعجها العدوان الإسرائيلي على الفلسطينيين وعلى المقدسات، وقد تكون هناك دوافع أخرى، لكن هذا لا يكفي في ظل شعور الشعب الفلسطيني والجماهير العربية والإسلامية بالغضب من هذه الزيارة والتي تعد تحولا للأسوأ؛ لأن الاحتلال هو العدو الأبرز لهذه الأمة والتقارب معه جريمة.
لكن وعلى الرغم من ذلك فإن القيادة التركية لها حسابات مختلفة ومصالح تسعى لتحقيقها بغض النظر عن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي الذي لن يكون سببًا في انهيار العلاقات أو منع تطويرها، لأن تركيا تسابق الزمن للنهوض في شتى المجالات في ظل الصراع الدائر، لذلك رممت مؤخرًا الكثير من العلاقات وليس لديها أي "خطوط حمراء" تمنعها من تطوير العلاقة مع الاحتلال ما دامت ترى أن هناك مصالح كبرى يمكن تحقيقها، ويبقى تضامنها مع قضايا الأمة ولا سيما قضية فلسطين ضمن الأولويات لكنه لن يكون الملف رقم واحد، ولن يكون عائقا أو سببا رئيسا لقطع العلاقات ووقف كل أشكال التعاون، فمثلا التعاون في مجال الاقتصاد حقق ويحقق مكاسب غير مسبوقة لتركيا التي تطمح لزيادته وتعميقه وتطويره وما يدل على ذلك ما ذكره الرئيس التركي من أن حجم التبادل التجاري بين بلاده وكيان الاحتلال الإسرائيل سجل العام الماضي زيادة بنسبة 36% ليبلغ 8.5 مليار دولار، معربا عن أمله في زيادة هذه القيمة إلى 10 مليار دولار.
هذا إضافة إلى أن إعادة العلاقة أو ترميمها لتصل إلى هذا المستوى كانت بمبادرة تركية وليست إسرائيلية على الرغم من حاجة الاحتلال لها لتحقيق مزيد من المصالح الكبرى والاختراقات النوعية، وهذا ما يدلل على أن القيادة التركية تتخذ سياسات مختلفة وتغير مواقفها في الفترة الأخيرة بما يناسب مع التغيرات الجارية في الإقليم وفي العالم وبما يحمي مصالحها ويعزز من حضورها وهذا ما دفع الرئيس التركي للهرولة والمبادرة بالاتصال مع الرئيس الإسرائيلي الحالي لتهنئته بانتخابه رئيسًا للكيان الإسرائيلي، والتي شكلت إحدى أهم وأبرز النقاط لاستعادة دفء العلاقة، بعد أن تدهورت بشكل حاد إثر قتل المتطوعين الأتراك الذين كانوا على متن السفينة "مافي مرمرة" المتوجهة للتضامن مع الشعب الفلسطيني.
وفي ذات السياق فإننا يجب ألا نغفل بأن الزيارة صاحَبها تنديد واستهجان وغضب داخل الدولة التركية على الصعيد الشعبي وعلى صعيد المؤسسات في إطار رفضها والتحذير من انعكاساتها والتنبيه إلى مخاطرها، إذ شهدت تركيا عدد من المظاهرات والوقفات الاحتجاجية الرافضة، وقام ناشطون أتراك بحرق الإعلام الإسرائيلية المعلقة في طريق المطار الذي هبطت فيه طائرة هرتسوغ بأنقرة ورفعوا أعلام فلسطين، ونظمت مؤسسات المجتمع المدني الإسلامية عدد من المظاهرات في أنقرة وإسطنبول ومحافظات تركية أخرى، وردد المتظاهرون هتافات مناهضة للولايات المتحدة وإسرائيل، حاملين صور الشهداء الأتراك الذين فقدوا حياتهم برصاص الجنود الإسرائيليين على متن سفينة "مافي مرمرة"، ثم أحرقوا العلم الإسرائيلي وكانت هناك العديد من البيانات المنددة.
وهذا بدوره يؤكد بأن القضية الفلسطينية ما زالت حاضرة وبقوة في وجدان وضمير الشعب التركي، وأن نظرة الشعب التركي للكيان الإسرائيلي لم تتغير في ظل قناعته بأن هذا الكيان هو العدو الأول لهذه الأمة وأن تقاربه مع النظام السياسي الرسمي لن يجلب الخير بل سيجلب الخراب لتركيا وأن الزيارة تشكل منعطفا خطيرا وتجاوزا واضحا وصريحا لمشاعر الأمة وتغاضيا عن الدور العدواني الذي يمارسه العدو الإسرائيلي الذي يتحرك في كل الاتجاهات لتعزيز تواجده وتنمية مصالحه على حساب أمتنا حتى لو كان الثمن سفك مزيد من دماء الأبرياء.