صفارات الإنذار كانت أشبه بعاصفة تثير غبار القلق داخل قلبه، مع بزوغ فجر الرابع والعشرين من فبراير/ شباط 2022، معه بدأت أصوات الانفجارات تُسمع في العاصمة الأوكرانية "كييف" وغيرها من المدن، هدير محركات أسراب الطائرات الروسية كانت أيضًا تدخل الرعب في قلوب أبناء المُغترب الفلسطيني مصطفى عزيز (50 عامًا)، وهو يقف على شُرفة منزله يُراقب الأجواء والتطورات، يذكره الشريط الأحمر الإخباري أسفل شاشة التلفاز بمجريات أحداث الحروب التي شنّها الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، لكنه الآن، يعيش أحداثًا مشابهةً.

في الأسفل حركة الناس كانت مضطربة وهم يهرعون نحو مراكز التسوق التي اكتظّت بهم، السيارات أيضًا اصطفّت أمام محطات الوقود؛ نزل مصطفى وهو فلسطيني من مخيم اليرموك بسوريا كبقية أبناء الجالية الفلسطينية في "أوكرانيا" وتسوّق، مُعتقدًا أنّ الحرب ستهدأ، كما اعتقد قبل ذلك أنها لن تقوم.

لكنّ شرارة الحرب تمدّدت وبدأت الانفجارات، وأصوات الطائرات، والقصف يتصاعد على العاصمة "كييف" بعضها كان يتساقط على مقربة من منطقة سكنه، يساوره الخوف والقلق من كل اتجاه؛ في لحظةٍ عايش ما كان يسمعه عن قصف الاحتلال لغزة، فاتخذ قراره الأصعب بمُغادرة العاصمة التي عاش فيها نحو تسعة وعشرين عامًا عندما حطّت قدماه أرضها عام 1993 وعمل بمجال الملابس، ورزق فيها بثلاثة أبناء.

قرار النزوح

"اتخذت قرار النزوح خوفًا على أولادي؛ فاتجهت نحو مدينة لفيف غربًا التي تُعدُّ أكثر أمنًا من العاصمة، بسبب قلة المواد التموينية التي بدأت بالنفاد، وصعوبة الأحداث" لكن رغم كل ما يرويه لـ "فلسطين أون لاين" كان قرار مغادرة أوكرانيا قاسيًّا عليه.

التاسعة، صباح الأول من مارس/ آذار، استأجر مصطفى سيارة ودفع أجرة تفوق عشرة أضعاف سعرها الحقيقي؛ يدركُ أنّ هناك حروبًا يشنّها التجار والطامعون أوقات الحروب، واتجهت المركبة في الشوارع الخالية من المارة نحو محطة القطار "هنا بدأت معاناة المسير بالقطار اثنتي عشرة ساعةً، وقفنا على أقدامنا فلم نجد مقاعدًا فارغةً، لأنَّ القطار يجب أن يكون مُمتلئًا لنقلِ أكبر عدد من المواطنين، ووصلنا التاسعة مساءً".

مصطفى عزيز أثناء عملية نزوحه من أتون الحرب

وصل القطار، ونزل النازحون في البرد القارس، والناس بين متدثر بملابسه أو متلحف بأغطيته، يتحرك بصوته مشهدٌ آخر "عندما وصلنا بدأت أبحث عن حافلة تتجه بنا لمدينة قريبة من الحدود، وانتظر أبنائي عدة ساعات، حتى عثرت على حافلة".

يضع نقطة النهاية في آخر رحلته "حينما وصلت الحدود بقينا ثلاث ساعات ننتظر عبورها حتى تمكنا من صعود قطار إلى مدينة "وارسو" شرق بولندا وكانت الساعة الثالثة والنصف عصرًا، فمكثت بأحد الفنادق عسى الله أن يمنحني القوة والصبر كي أستطيع النهوض ومساعدة نفسي وعائلتي وبدء حياة جديدة في بقعة جديدة".

بدأت الحرب

الخامسة فجرًا لحظة بدء الهجوم والحرب، صوت طفله المرتعد، بقدمٍ ترتجف ينادي على والده محمد أبو حسين -وهو فلسطيني من غزة يعيش بأوكرانيا: "بدأت الحرب!"، لم يرَ طفله وزوجته بهذا الذعر يكتسح الخوف ملامحهم، فيسأله طفله "بدهم يقصفونا!؟"، نهض من سريره واحتضن طفله وضمّه إليه، وأعطاهم فكرةً عن الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وأنَّه مرَّ بهذه الظروف والأزمات طالبًا منهم الهدوء، وطلب من زوجته تجهيز حقيبتَين بها أوراق مهمة تحسّبًا لأيّ طارئٍ كما كان يفعل النازحون الغزيّون الهاربون من جحيم العدوان الإسرائيلي.

"لحظة بدء الهجوم تاريخ لن يُنسى من الذاكرة، عندما استيقظ الجميع على بدء الحرب؛ فبدأ الإرباك والتدافُع، كانت لحظةً فاصلةً ففي اليوم السابق كنّا نمارس أعمالنا، لم نتوقع أن تصبحَ التوقعات والتهديدات حقيقية" كانت أصوات الصواريخ تذكره بأصوات الصواريخ الإسرائيلية على غزة حينما كان يتابع الحرب عن كثب.

بحكم عمله الصحفي، لم يغادر محمد منزله، ظلَّ يتابع الأحداث وينقلها أولًا بأول، وفي نفس الوقت يحاول طمأنة أبنائه وإسكات مخاوفهم نتيجة تصاعد الأحداث يدرك أنّ "هذه حرب، لا تعرف ماذا سيحصل بين لحظةٍ ولحظة!؟ لذلك هناك تلاحم وتواصل مستمر في الجالية الفلسطينية"، مُطالبًا، السفارة الفلسطينية بإجراءِ اتصالاتٍ لضمان خروجٍ آمنٍ لمن يرغب من أبناء الجالية.

وإلى أن يحدث ذلك يفرض على محمد وعائلته عيش ليالٍ دامية في مساء العاصمة "كييف" أكثر ما يقلق أبناءه هو صوت إطلاق النار الكثيف والاشتباكات بين الجيشين الروسي والأوكراني على أطراف العاصمة، والقصف المستمر.

عملية ازدحام كبيرة على القطارات للهروب من الحرب 

"مع كلّ صفارةِ إنذارٍ قريبةٍ ننزلُ للملاجئ وقت الحاجة، أو نمكث بالبيت بسبب فرض منع التجوال، نبذل كلّ شيءٍ صعب في سبيل الحفاظ على أمنك وأمن أسرتك وحياتهم لذا يجب أن تظلّ جاهزًا لأيّ طارئ؛ ولا أبالغ إن قلت أننا ننام قليلًا فقط"، إضافة لذلك تستضيف قنوات عديدة محمد لينقل رسالته من قبل الحرب إلى العالم.

اليوم العاشر

دخلت الحرب التي تشنّها روسيا على أوكرانيا يومها العاشر، وقد أعلن الجيش الأوكراني أنّ القوات الروسية بدأت ضرب طوق حول العاصمة كييف وخاركيف -ثاني أكبر مدينة في البلاد- لمحاصرتهما وإعلان الاستسلام، وأصبح أمر الخروج من العاصمة على الفلسطيني بسام حموز صعبًا بسبب هذا الطوق.

يمرُّ أمامه مشهد بدء الهجوم، في وقت يصغي "فلسطين أون لاين" لصوته القادم من بعيد بعدما أرسل تحية لأبناء شعبه " كفلسطينيين تلاحقنا الحروب؛ فأينما ذهبنا كنا الضحية أيضًا!، عندما بدأ الهجوم وقصفت طائرة روسية عمارة سكنية، في نفس العمارة تعرضت شقة لدكتور فلسطيني صديق لي للقصف بنفس الطريقة وكأننا ندفع فاتورة الحرب".

يتوقف مُطوّلاً عند اليوم الأول للحرب "كنا نائمين في سبات، واستيقظنا في حالة ذعرٍ لا نعرف ماذا نفعل، حاولت النزول للعمل وأخذ الأمر على أنه طبيعي لكنني وجدت أزمة تلو الأزمة، الناس يصطفّون أمام البنوك، والمتاجر، وطابور طويل من السيارات يحاولون إخلاء المدينة، ومع مرور كلّ ساعة أو يوم بدأ النزوح يصعب، وبدأنا نفقد السلع ودخل الناس بمرحلة هلع لذا لم أتمكن من الخروج وبقيتُ عالقًا في كييف".

عدد كبير من "الأوكرانيين" هاجروا وفتحت إليهم الحدود؛ وأعلنت الدول المجاورة تسهيلات لهم، بينما بقي كثيرٌ من الفلسطينيين في منازلهم لا يعرفون أماكن يهاجرون إليها إلا بصعوبةٍ، بعضهم اتجه للقرى لكن بسام بقي هو وعائلته في منزله "عند سماع صفارات الإنذار نتوجه كلنا للملاجئ القريبة على البيت، لكن الأمور أصبحت صعبة والقصف يزداد ويشتد والدمار حولنا يقترب".

ينتقل للحديث عن اليوم الثالث "أعلنت السلطات عن حظر التجوال، كنا نسمع صوت الرصاص والاشتباكات ونتابع الأخبار، واعتقدنا أنّ الجيش الأوكراني استطاع صدّ العدوان، لكن الهجوم الروسي كان هائلًا، ومن هنا بدأ الناس بالمغادرة للقطارات، أصدقاء عرب لنا أيضا نزحوا".

أعلنت السلطات عن السماح للسكان بالنزول لشراء حاجيّاتهم، كان المشهد في الخارج مُختلفًا عمّا شاهده بسام قبل الحرب "نزلنا ووجدنا العاصمة مليئة بالحواجز ونقاط التفتيش، رأينا دبّابات محترقة على أطراف العاصمة، تجولت كثيرًا على عدة محطات وقود حتى استطعت تعبئة الوقود، مع ساعات المساء، توالت صفارات الإنذار والقصف، وفي وقت الحظر ترسل السلطات سيارات متجولة لبيع الخبز والطحين والبيض أمام المنازل وفق موعدٍ تعلنه للناس".

 لقطات صورها بسام الحموز

انضم بسام لمجموعات فلسطينية على تطبيق "واتساب" ومكَّنتهم من تبادل المعلومات حول الطرق الآمنة للنزوح، وتلبية مناشدات العالقين والتكاتف فيما بينهم في الحرب، خاصةً أنّ القانون الأوكراني يمنع هجرة حمَلة الجنسية الأوكرانية ولا يحملون جنسيات أخرى من الهجرة من عمر 18-60 عامًا، إلا إذا كان لديه أكثر من ثلاثة أبناء، أو ابن مريض.

كان يوم الجمعة (اليوم التاسع للحرب) داميًا، لم يهدأ صوت القصف من الصباح حتى المساء، ولا يزال العشرات من أبناء الجالية الفلسطينية عالقين في عدة مدن يُقدّر بسام وهو عضو بالهيئة الإدارية للجالية الفلسطينية عدد العائلات العالقة بنحو 30 عائلة من أصل 200 عائلة مُسجّلة رسميًا، اضطروا للبقاء تحت أصواتِ القصف، إلّا من غامر ونزح تجاه الغرب نحو بولندا وغيرها من الدول المجاورة لأوكرانيا.