أطلق الاحتلال الإسرائيلي عدوانه على قطاع غزة قبل ثلاثة أعوام، تحت عنوان (الجرف الصامد) أو ما اصطُلح عليه فلسطينيًّا بمعركة العصف المأكول، ومارس الاحتلال في عدوانه هذا عنفا وتخريبا وتقتيلا غير مسبوق ضد الشعب الفلسطيني، محاولا اقتناص اللحظة التاريخية بانطلاق الثورات المضادة في العالم العربي، وندرة النصير للمقاومة الفلسطينية، ووقوع قطاع غزة تحت حصار خانق جدًّا، وما ظهر من تجند لبعض الأنظمة العربية بدبلوماسيتها وبإعلامها ومخابراتها لدعم الجهد الحربي العدواني ضد قطاع غزة، هادفة إلى تركيع الشعب الفلسطيني وتصفية القضية الفلسطينية بضربة واحدة وإلى الأبد.
فاجأت المقاومة الفلسطينية الجميع بامتصاصها للضربة الأولى، وبامتلاكها لزمام المبادرة، وبدئها بسلسلة عمليات نوعية وجريئة ضد قوات الاحتلال التي حاولت اقتحام أطراف قطاع غزة، بل بادرت المقاومة إلى غزو قوات الاحتلال في عمق الأراضي الفلسطينية المحتلة من عام 1948م مجسدة الشعار الذي أطلقته من قبل (نغزوهم ولا يغزوننا).
ولعل أكثر ما لفت النظر في هذه العمليات هو الإعداد الجيد لها، والتصميم، والمبادرة، والجرأة، ورباطة الجأش والتدريب العالي لمنفذيها، هذه المواصفات هزت قادة جيش الاحتلال وأفقدتهم الثقة بإمكانياتهم وبقدرات جنودهم، فمسألة قتال جنود بهذه المواصفات، وجها لوجه، جديدة على جنود كانوا يعتبرون الحرب مع العرب نزهة!
أجادت المقاومة الفلسطينية الحرب الإعلامية واخترقت المجتمع الاحتلالي، وحصنت كل مؤيديها والمتعاطفين معها ضد الدعاية المعادية، وبالرغم من أنه كان من الواضح أن هذه الدعاية الحربية أعدت على يد خبراء محترفين، إلا أن أهم سبب لفعاليتها هو واقعيتها وانسجامها مع مجريات الميدان والمعارك على الأرض.
وبالرغم من مواجهة إعلام المقاومة لآلة إعلامية ضخمة لأجهزة مخابرات كبرى تمتلك إمكانيات مالية وفنية ومعلوماتية ضخمة، إلا أن صدق الرواية الفلسطينية، وإخلاص المقاتلين في سبيلها، وصدق إعلامها، وبعده عن الكذب والتهريج، أدى إلى فوز المقاومة الفلسطينية في هذه المعركة بالضربة القاضية.
كان الناطق بلسان المقاومة الفلسطينية (أبو عبيدة) نجم الحرب بلا منافس، فقد اتسم أداؤه بالمسؤولية والاتزان وتجنب المبالغة والابتعاد عن الكذب، وتميز باختياره للمصطلحات بدقة أثرت بشكل لافت في المستمعين، وجعلت الجميع ينتظرون خطاباته والاستماع إليها وتحليلها بعناية.
وكان واضحا أن خطاب المقاومة منسجم مع أدائها على الأرض ومهتم بإظهار صورة مسؤولة عنها ترسخ أنها مقاومة راشدة تبحث عن حرية شعبها، وليست مجموعة من القتلة المهووسين الذين يبحثون عن القتل العشوائي والتهريج والتمظهر الفارغ والاستعراض.
وتجلى ذلك في إعلانها عندما فرضت المقاومة حظرا على الطيران فوق مطار اللد بالقرب من تل أبيب، بل كان يحرص أبو عبيدة على التأكيد دائما بأن الحرب فرضت على الفلسطينيين، وأن المقاومة تدافع عن شعبها بقتال جنود مدججين بالسلاح؛ بينما يقتل جيش الاحتلال المدنيين الفلسطينيين ويهرب من رجال المقاومة على الأرض، وهو الخطاب الذي كان يصف ما يجري على الأرض دون زيادة أو نقصان.
وقف غالبية الإعلام اللبناني إلى جانب المقاومة الفلسطينية في الحرب، وبدأت وسائل إعلامية عربية أخرى في التجند لصالح رواية المقاومة بفعل نجاحاتها على الأرض وفشل قوات الاحتلال على الأرض، ولكن (فضائية الجزيرة) كانت الرائدة في إيصال ما يجري في القطاع إلى العالم، وأبدعت في إعلام الواقع وبث المشهد كما هو، مما أثار حنق الكثير من الأطراف عليها وعلى مقدمي البرامج فيها، لدرجة دفعت الناطق باسم جيش الاحتلال لإطلاق وصف (أم عبيدة) على إحدى مذيعات الفضائية!!
برز دور نشطاء وسائل التواصل الاجتماعي بشكل لافت أزعج كل أعداء الشعب الفلسطيني، فقد تحول كل ناشط يحمل هاتفا بكاميرا إلى صحفي يصور ويحرر وينشر في إعلام واقع لا تملك جهات خارجية القص والتحرير والحذف منه أو إخضاعه لتوجهاتها ومصالحها.
أما المواقع الإلكترونية والوسائل الإعلامية الناطقة والمتعاطفة مع المقاومة الفلسطينية فقد كان لها دور يوازي دور المقاتلين في الميدان، وبالرغم من استهدافها بهجمات إلكترونية وقصف مقراتها إلا أن قيامها بالهجمة المضادة المدروسة أثبت أنها كانت مستعدة لمثل تلك السيناريوهات، حيث تمكنت من القيام بدورها في المعركة على أكمل وجه، أما (فضائية الأقصى) فقد كانت فضائية المعركة وكان دور العاملين فيها يوازي دور مقاتلي النخبة في الميدان.
لم يوجه خطاب المقاومة للمتعاطفين معها فقط، ولكنها شنت حربا دعائية مؤثرة على المجتمع الصهيوني عبر إرسالها لرسائل نصية إلى هواتف الإسرائيليين، وعبر اختراق بث الإذاعات والقنوات التلفزيونية الصهيونية وبثها لرسائل دعائية لضرب الروح المعنوية لهم.
وبلغت هذه الحرب ذروتها من خلال بث أغنية (زلزل أمن إسرائيل) باللغة العبرية، التي تحولت سريعا إلى الأغنية الأكثر انتشارا في المجتمع الإسرائيلي، لدرجة أربكت علماء النفس والاجتماع والسياسة وخبراء الأمن والحرب الدعائية، فتفوق دعاية المقاومة أدى إلى تحول خطابها إلى مسلمات في المجتمع الإسرائيلي، فقد ثبت أن كل ما قالته المقاومة في دعايتها عن أسر الجنود وعن اقتحام المواقع العسكرية كان صادقا، بعدما وثقت ذلك وبثته في فيديوهات.
وبلغ تأثر المستوطنين بخطاب المقاومة ذروته عندما رحل كل المستوطنين من مستوطنات "غلاف غزة" بعد أن وجه لهم قائد المقاومة محمد الضيف إنذارا بالإخلاء، بل رفضوا العودة بعد انتهاء الحرب إلا بعد أن أعلن الضيف وقف الحظر، حيث أظهر هذا المشهد فقدان الشعب الإسرائيلي الثقة بقادته وتصديقه وتطبيقه لتعليمات المقاومة الفلسطينية.
وظهر وقتها الرسم الكاريكاتوري الشهير الذي نشرته الصحافة الإسرائيلية، والذي يظهر مشهد رحيل المستوطنين من المستوطنات في صورة مماثلة للتغريبة الفلسطينية عندما قام المستوطنون الصهاينة بطرد الفلسطينيين من منازلهم ومزارعهم، وظهر كاريكاتير آخر نشر وقتها لأم إسرائيلية تحاول أن تجبر طفلها على النوم وتقول له: (نام واللا بجيبلك حماس)، وهذا المشهد كان مقلوبا بعد حربي 1948م و1967م.
ولذلك كان لافتا جدا لكل قارئ منصف حجم التحول الذي صنعته هذه الحرب في العقل الصهيوني، فقد (أشربتهم روح الهزيمة) بطريقة تماثل ما ذاقه العرب بعد هزيمة عام 1967م، بينما أصبح (أبو عبيدة) ومقاتلو المقاومة الفلسطينية مثلا أعلى لجيل كامل من العرب والمسلمين والأحرار، وختم وزير الحرب الإسرائيلي السابق هذا المشهد بقوله بأن عصر الانتصارات العسكرية الإسرائيلية السهلة والسريعة انتهى.
بالرغم من امتلاك الاحتلال لشبكة مصادر معلوماتية بشرية كبيرة ومدربة، ولتجهيزات تكنولوجية بالغة التطور، ولدعم العديد من أجهزة المخابرات في معركته تلك، إلا أن المقاومة أثبتت بالممارسة أنها امتلكت المعلومات قبل وخلال وبعد الحرب، وثبت أنها عندما كانت تتحدث عن معلومات معينة خلال الحرب أنها لم تكن تبالغ ولا تكذب ولا تخدع أنصارها، فقد أيدت كلامها بالدلائل المصورة، بل أثبتت أيضا قدرتها على الاحتفاظ بالمعلومة وبالتحكم في طريقة إخراجها عبر ما عرف بـ (الصندوق الأسود) الذي يبدو أنه يتضمن التفاصيل التي لا تزال غامضة عن عدد الجنود الأسرى لديهاـ والذين تشير بعض التسريبات إلى أن ملفهم بدأ بالتزحزح في الفترة الأخيرة.
تقديري أن أهم إنجاز أنجزته المقاومة الفلسطينية في حرب العصف المأكول قبل ثلاث سنوات هو أنها أوصلت الاحتلال إلى قناعة بأن حرب عام 1967م واحتلال الضفة الغربية وقطاع غزة وسيناء والجولان في ستة أيام والاستسلام الجماعي للقوات العربية بالملابس الداخلية انتهى بغير رجعة.
رسخت المقاومة الفلسطينية في حروبها مسألة (القدوة) أمام الجمهور وأمام المقاتلين في الميدان؛ فقد قدم القادة أنفسهم وأولادهم وعائلاتهم بأكملها في معارك صد العدوان، وهذا أهم سبب في صمود الشعب والمقاتلين في المعركة.
وقد قام الاحتلال مع بداية الحرب بقصف بيوت كل قادة المقاومة الفلسطينية من اليوم الأول للتأثير على معنوياتهم ولكسر إرادتهم، ولكنه فشل في ذلك بالرغم من قتله لبعضهم ولبعض عائلاتهم، ثم مارس استئساده على المدنيين بعد أن أبيدت قيادة كتيبة جولاني شرق الشجاعية، ولكن طوال الحرب وحتى نهايتها لم يخرج فلسطيني واحد رافعا الراية البيضاء، فمسألة (القدوة) والتضحية بالنفس والبيت والعائلة التي قدمتها المقاومة الفلسطينية عززت من مناعة الشعب الفلسطيني ضد جرائم العدو وضد دعاية الخونة والمنافقين.
كان لهذه المعركة آثار كبيرة على الفلسطينيين وعلى مجتمع المستوطنين وعلى كل الجهات السياسية والأمنية التي تؤثر وتتأثر بالشأن الفلسطيني.
ولعل أكثر نتائج الحرب إزعاجا لتلك الأطراف هو عجزها عن كسر إرادة المقاومة الفلسطينية وعجزها عن إجبارها على القبول بشروط الرباعية، وعجزها عن دفع الشعب الفلسطيني إلى الثورة على المقاومة الفلسطينية تحت ضغط حاجاته الحياتية.
والأهم من ذلك كله عجزها عن منع المقاومة من قطف ثمار تضحياتها وثمار التفاف شعبها حولها، والتي يبدو أنها ستقطف في الفترة القادمة ثمار فتح صندوقها الأسود عبر تحرير آلاف الأسرى الفلسطينيين.