تتصاعد الأزمة الروسية الأوكرانية يومًا بعد يوم، وتدق طبول حرب قد تتسع جغرافيًّا في حال استمرارها، لتصل إلى مرحلة اللا عودة، وتطوي معها مرحلة امتدت لثلاثة عقود من الهيمنة الأمريكية على المؤسسات الدولية بعد تفكك الاتحاد السوفييتي نهاية العام 1991م، لنشهد اليوم نشأة مرحلة سياسية عنوانها تعدد الأقطاب المهيمنة على دول العالم، ولتتقدم معها المصالح الاقتصادية والأمنية الذاتية لتحل محل المبادئ القانونية والاتفاقيات الدولية التي نظمت إلى حد ما العلاقات السياسية بين الدول طوال الحقبة الماضية.
روسيا لم تكن الدولة الأولى التي سعت لفرض هيمنتها السياسية بالقوة المسلحة بعيدًا عن قرارات مجلس الأمن، والجمعية العامة للأمم المتحدة، فقد سبقتها بعقود الولايات المتحدة حين اعتدت على دول مستقرة، وأقدمت على احتلال أفغانستان، والعراق في حرب عسكرية عدوانية خلفت مئات الآلاف من القتلى الأبرياء، وملايين المهجرين الهاربين من بطش الآلة العسكرية الأمريكية، ونتج عنها نهب خيرات وموارد تلك الدول والشعوب بعيدًا عن شعارات الحرية والديمقراطية الزائفة التي رفعتها آنذاك الولايات المتحدة الأمريكية.
نحن كشعب فلسطيني عانى من بطش الاحتلال، وعدوان آلته العسكرية على أرضنا، ونهب خيرات أرضنا وديار أجدادنا، لا نسعد البتّة بإراقة الدماء النازفة في أي بقعة من العالم، ولا يسرّنا أن يعيش العالم في فوضى أو اقتتال، ولكننا حين ننظر إلى الأزمة الروسية الأوكرانية من زاوية سياسية، نرى أنها معركة لفرض الإرادات السياسية بالقوة المسلحة، ومحاولة جادة لكسر الهيمنة الأمريكية على دول العالم، وأن الولايات المتحدة كانت ولا زالت الطرف الأكثر سعيًا لاشتعالها، في محاولة لنشر منظومات عسكرية أمريكية على أطراف الحدود الروسية، وأن انتصر روسيا في هذه المعركة سيؤدي حتمًا إلى كسر الهيمنة الأمريكية، وتراجع الحضور الأمريكي في المنطقة العربية لصالح تحالفات وقوى إقليمية باتت تُعد نفسها وجيوشها لملء هذا الفراغ السياسي والعسكري في المنطقة.
لطالما كانت الولايات المتحدة ولا زالت الحامي الأكبر لكيان الاحتلال الصهيوني، والمدافع السياسي الأكثر شراسة عن جرائم الاحتلال أمام المحافل الدولية، وهي التي وفرت للاحتلال طائراته الحربية، وقذائفه التكنولوجية المطورة التي يقتل بها أبناء شعبنا الفلسطيني، وهي التي أمدته بالمزيد من الموازنات المالية والمساعدات العسكرية خلال عدوانه الأخير على غزة في مايو من العام الماضي، وهي التي تلاحق المقاومة الفلسطينية، وتنعتها كذبًا وزورًا بالإرهاب والإجرام، وهي التي تفرض على الأنظمة العربية قطع خطوط إمداد المقاومة الفلسطينية، وملاحقة أنصارها في الدول العربية، بل والمشاركة عمليًّا في حصارها في غزة، وهي التي توفر الدعم والإسناد لأجهزة عباس في الضفة شريطة الاستمرار في التعاون الأمني مع جيش الاحتلال، وملاحقة أنصار المقاومة في الضفة المحتلة.
إننا كفلسطينيين نسعد كثيرًا بتراجع سطوة الولايات المتحدة الأمريكية عن المنطقة العربية، وندرك أن انكسار الهيمنة الأمريكية العالمية يعني كسر حلقة مهمة من سلسلة الحماية الدولية التي يتمتع بها كيان الاحتلال الصهيوني، وأن ضعف الولايات المتحدة هو إضعاف مباشر لكيان الاحتلال وتراجع في الدعم السياسي والعسكري الذي يتلقاه هذا الكيان الغاصب من الولايات المتحدة.
كما أننا وإذ نرجو السلامة لجميع المواطنين الأبرياء الذي يعانون نتيجة الأزمة الروسية الأوكرانية، فإننا لا زلنا نذكر كيف وقف الرئيس الأوكراني المهرج إلى جانب كيان الاحتلال في عدوانه الأخير على غزة في مايو 2021، وكأن الرجل الذي دعم علنًا قتل الأبرياء في غزة لم يكن يتخيل أن يعاني شعبه يومًا مما عانى منه شعبنا الفلسطيني الأعزل من قصف متواصل قامت به طائرات الاحتلال على بيوت الآمنين في قطاع غزة.
إن الدرس الأبرز في الأزمة الروسية الأوكرانية أن الحماية الأمريكية للأنظمة المستبدة في المنطقة العربية هي وهم لا رصيد له في أرض الواقع، وأن من يعتمد على الولايات المتحدة في حماية عرشه عليه مراجعة سياساته الداخلية والخارجية، والعودة لاحتضان أبناء شعبه من جديد، فجميع الشواهد تدلل على أن المحتل الأمريكي يهدف من تدخلاته العسكرية إلى نهب موارد المنطقة، وهو يغادرها سريعًا حين تبدأ في النضوب.
ختامًا فإن الأزمة الروسية الأوكرانية ترشدنا أن مبادئ القانون الدولي ما هي إلا نظريات لا رصيد لها في أرض الواقع، وأن ذلك القانون لا سطوة له سوى على الشعوب المستضعفة، وأن العالم تحكمه المصالح الذاتية والاقتصادية، وأن بناء القوة المسلحة ضرورة لا بد منها للدفاع عن الدولة والمجتمع، وأن من خسر سلاحه، أو افتقد احتضان أبناء شعبه، سيسقط حتمًا عند أول أزمة سياسية تواجهه.