في المشهد عينان تنظران إلى الحياة تلمع منهما نظرة أمل، بملامح متوهجة وابتسامة مشرقة وضحكة بيضاء صافية، يتغنى للحياة، يدق الفرح طبوله في قلبه وهو يلهو مع أطفال الجيران قرب بوابة "الخضر" جنوب مدينة بيت لحم، لكن كان هناك من يجهز له كفن الموت.
مع قرب حلول المساء مغرب أمس الثلاثاء التقى الطفل محمد شحادة مع أبناء جيرانه بالحارة الأخرى وهو موعد يجتمعون فيه للعب في معظم الأوقات، بعدما استأذن والده السماح له باللعب لساعةٍ فحصل على الإذن وغادر منزله البعيد عن البوابة مسافة 500 مترٍ، كانت بلدة الخضر أيضًا ساكنة تخلو من أي أحداث بين الشباب وجنود الاحتلال، وهو ما حفز والده على ترك الطفل يفعل ما يريد.
ركض محمد مع الأطفال، ولعبوا ألعابًا اعتادوا عليها يوميًا، كان الفرح يقيم حفلاً صاخبًا في قلوبهم وتشق الابتسامة طريقًا بين قسمات وجوههم، مشهدٌ لم يرق لجنود الاحتلال المتمركزين بتلك المنطقة، رصاصة انطلقت من بندقية أحدهم كان يراقب محمدًا بمنظاره لتخترق جسد الطفل الضعيف، وأردته أرضًا مسجىً بدمائه، ثم قام جنديان بسحبه وهو مضرجٌ بدمائه، وجردوه من ملابسه، وتركوه ينزف ومنعوا الأهالي ومن ثم سيارات الإسعاف من الوصول.
صوت الرصاصة اخترقت أذن والد الطفل، كذلك اخترقها أصوات أطفال الجيران الذين انسحبوا من مكان الجريمة عائدين إلى منازلهم، توقف أحدهم وأخبره بما سمع "بقولوا حمودة تصاوب!".. قالها بأنفاس متقطعة، وجسد يرتجف من الخوف، فحمل نفسه وركب سيارته رفقة أبناء العائلة لمكان الحدث حينما طوت سيارته الطريق بأقصى سرعة ممكنة، ليجد تجمعًا لجيش الاحتلال.
لم يرَ طفله، لكنه ترجل من سيارته وتقدم خطوات للأمام، قبل أن يبعده أحد الجنود "ارجع ورا" فعرَّف عن نفسه "أنا والد الطفل" بينما تحاول عيناه فتح منفذ من بين جدار الجنود لرؤية محمد، لكن لم يقل فظاعة رد الجندي وهو يشهر سلاحه بوجهه عن بشاعة الجريمة نفسها "ارجع؛ لأقعدك جنبه".
لحظة اتصال "فلسطين أون لاين" به الأربعاء، كان والد محمد ينتظر منذ ساعات الصباح استلام جثمان طفله لمواراته الثرى قرب الحاجز الإسرائيلي، بعد ليلة لم يعرف النوم طريقا إلى عينيه، "عندما هددني الجندي بأنه سيجعلني أمدد بين ابني، كان تهديده علامة أنه شهيد، صدمت وتجمدت في مكاني ثم رجعت إلى المنزل".
يستذكر آخر لحظة جمعته بطفله "طلب الإذن بالذهاب للبوابة، ولأن البلدة تخلو من أي مواجهات أذنت له باللعب، ولم تمر سوى ساعة حتى سمعت صوت الرصاصة ثم ذهبت لمكان الحدث (..) أكثر شيء آلمني هو منع إسعافه وتجريده من ملابسه بقصد الإهانة أشعر وكأن شيئا غرس في قلبي حينما رأيت الصورة".
لم يستطع الأب المكلوم استمرار الحديث، فناب عم محمد والذي يحمل نفس اسمه رواية التفاصيل قائلا، إن المنطقة التي أعدم فيها محمد بعيدة عن نقاط التماس، كونها تقع بين الأحياء السكنية وفي بلدة الخضر جدار الفصل العنصري قريب من منازل المواطنين، ويأتي أطفال الحارات للتجمع واللعب.
يملأ الغضب صوت عم الطفل "ما جرى جريمة إعدام بدم بارد، حتى أن جنود الاحتلال بعدما ارتكبوا جريمتهم لاموا بعضهم، وتبادلوا الاتهامات حينما وجدوا أنفسهم يقتلون طفلاً صغيرًا لم يتجاوز ثلاثة عشر عامًا.
قبل يومين وقع محمد على الأرض وتعرض لرضوض مؤلمة في يده، وهو ما يجعل عمه يقطع الطريق أمام أي تلفيق سيقوم به الاحتلال لاحقًا لتبرير ارتكاب الجريمة "لو أرادوا القول إن هناك مواجهات، فهذا غير صحيح فلم تشهد البلدة أحداثًا، كما أن يده كانت تؤلمه ولا يستطيع حمل حجر".
محمد طفل من مواليد 2008 يدرس بالصف السابع الإعدادي، يقول عمه إن كان يمضي معظم وقته في اللعب مع أطفال العائلة والجيران، لكنه امتاز بالجرأة والشجاعة فلم يعرف الخوف، يحب مساعدة أفراد العائلة وكان مهتمًا في المساعدة في تفكيك قطع الغيار والميكانيكا، يردف بعفوية: "كنت أستغرب أنه طفل بعمر صغير بقدر يفك شغلات الكبار ما بقدر يعملها الكبار".
كأي إنسان مزقت قلبه صورة محمد وهو ممدد على الأرض مجرد من ملابسه، أيضًا كان وقعها صعبًا على عمه "عندما شاهدت الصورة لم أصدق، لكن ما جرى بشع جدًا، ومؤلم ويخالف كل الأعراف الدولية وقوانين حقوق الإنسان".
بقتل محمد وتجريده من ملابسه ومنع إسعافه، لم ينتهك الاحتلال حقًا واحدًا من حقوق الإنسان، بل داس جنوده عليها كلها قبل أن تخترق رصاصاتهم جسد الطفل الضعيف.