"كنتُ أسهر طوال الليل جالسًا على كرسيّ بجانبه، أبكي بحرقة لعدم قدرتي على تخفيف آلامه"، هكذا قضى الأسير المحرر قتيبة خالد الشاويش ثلاثة سنوات ونصف من الاعتقال بقرب والده، في "مسلخ الرملة" كما يصفه، ليخرج من المعتقل وهو أكثر قلقًا على والده بعدما شاهده من إهمالٍ طبيّ لامحدود من قِبل إدارة السجون للأسرى الفلسطينيين.
ورغم أنّ الأسير خالد الشاويش أُصيب بشللٍ نصفي في إثر رصاصة أصابته في اشتباكٍ مُسلّح مع قوات الاحتلال الإسرائيلي في عام 2002م في مدينة رام الله المحتلة، ومصاب بأربع رصاصات في يده اليُمنى، ذهبت بالعظم من الكوع حتى الكف، إلا أنّ ذلك لم يشفع له ويحول دون أسرِه ومحاكمته.
ويشير ابنه البكر قتيبة إلى أنّ والده كان مُطاردًا لزمنٍ طويلٍ ضمن "خلية عسكرية" كانت تضمّ الشهداء: محمد غندور، ومهند أبو حلاوة، والأسيريْن ناصر أبو حميد وعمه ناصر الشاويش "محكوم حاليًّا بستة مؤبدات"، حيث نفّذوا عدّة عملياتٍ ضدّ المستوطنين كان أبرزها قتل بنيامين كهانا وزوجته، وهو ابن الحاخام الإسرائيلي الشهير مئير كهانا، رئيس منظمة "كاخ"، التي تؤمن بالعنف والإرهاب وسيلة وحيدة لتحقيق أهداف الحركة الصهيونية.
في أثناء اشتباكٍ للخلية مع الاحتلال أُصيب خالد بأربع عشرة رصاصة من إحدى الدبابات الإسرائيلية، وقد انتشله وهو غارق في دمائه الاستشهادية وفاء إدريس، والأسير ناصر أبو حميد، وشقيقه الشهيد مهند واصطحبوه للمستشفى حيث أجرى له الأطباء عملية جراحية عاجلة.
"لكن لم يكن بالإمكان تركه بالمشفى لكون الاحتلال كان يجتاح رام الله وخشِيَ رفاقه من أن يتمّ اعتقاله، فنقلوه لمقرّ المقاطعة في وضعٍ صحيّ بالغ السوء في ظلّ غياب العناية الصحية والأدوات الطبية اللازمة، وبقِيَ هناك حتى تمكّن الاحتلال من خلال قواته الخاصة من اعتقاله من أمام أحد بوابات المقاطعة أواخر 2006م"، يقول قتيبة.
تحقيق سادي
وفي المعتقل خضع لتحقيق ٍساديّ في سجن "هداريم" فكان يذهب للحمام زاحفًا لقضاء حاجته وكان الاحتلال يمنع أيّ أسيرٍ من مساعدته للضغط عليه من أجل الاعتراف بالعمليات التي نفّذها.
لاحقًا نقل خالد لمسلخ الرملة "عيادة سجن الرملة" وهو عبارة عن أربع غرف، الممر فيها "عرضه عبارة عن 12 خطوة"، ومكان الاستراحة (الفورة) ضيق جدًّا لا يزيد على أربعين خطوة، ولا يخرج لها أيٌّ من الأسرى المرضى فهم عاجزون عن ذلك، كما أنّ سورها عالٍ والشمس لا تدخلها.
وبالعودة لوضع والده، خاض قتيبة ووالده صراعًا مريرًا مع إدارة سجون الاحتلال بالإضراب المُتزامن عن الطعام خلال سني اعتقاله الأولى ليسمحوا بالجمع بينهما في زنزانة واحدة، وكان لهما ما أرادا لمدة ثلاث سنوات ونصف من أصل عشر سنوات ونصف.
أراد قتيبة أن يُطفئ شوقه لوالده الذي فارقه حينما كان في الحادية عشرة من عمره": "كنتُ محرومًا من زيارته لمدة سبع سنوات قبيل أنْ يتمّ اعتقالي، صحيحٌ أنني حقّقتُ حُلمي بمرافقة والدي لكنها كانت لحظاتٍ عصيبة".
يُضيف: "والدي طريح الفراش منذ 16 عامًا، لا يستطيع الحركة وخضع لعدّة عمليات في يده دون جدوى، فبعد أن فقد البلاتين بفعل التعذيب، وضعوا واحدًا آخرَ غير أنّ جسمه لم يتقبله، فأعادوا الكرّة من خلال قصّ عظمةٍ من ساقه ووضعها بدلًا من البلاتين ولكنّ الجسم رفضها أيضًا".
ومرة ثالثة أُدخل خالد لإجراء عملية ففهم من كلام الأطباء فيما بينهم أنهم سيبترون يده فأخذ بالصُّراخ: أوقفوا العملية.
يضيف قتيبة: "مرّ على هذا الموقف خمس سنوات وحتى الآن يده اليُمنى أقصر من يده اليُسرى بنحو 14 سم، ولا يستطيع الاستفادة منها بشيء، بل إنها تبقى في الجبيرة طوال اليوم، ولا يستطيع حتى الجلوس على الكرسي المتحرك بمفرده".
ولا يقتصر سوء وضع الأسير خالد الصحّي على ذلك، بل إنّ نصفَ عموده الفقري من البلاتين، ما يجعله لا يستطيع الجلوس أكثر من ساعة متواصلة، يداهمه ألمٌ لا يُحتمل لأيام إذا ما زاد على ذلك، ناهيك عن أجواء الصيف الحارة والشتاء البارد التي تترك أثرها في جسمه حيث استقرت 250 شظيّة في ظهره.
يمضي قتيبة إلى القول: "يعيش والدي على مُسكّنات قوية المفعول تُعطى له يوميًّا منذ 15 عامًا خلت كي يتمكّن من أنْ يحيا نصف حياة بنصف الألم، وإنْ تأخرت عنه قليلًا فإنه يكون في حالة من الهستيريا بسبب الألم".
وما مزّق قلب قتيبة أنه كان يرى والده في قمّة الألم دون أنْ يستطيع أن يقدّم له يد العون، "كان يصرخُ من الألم وأنا أنخرط في البكاء لعجزي وقلة حيلتي".
الحال في "عيادة الرملة" يُرثى له – حسبما يروي قتيبة- فهناك حالات مرضية غاية في الصعوبة لا يُعيرها الاحتلال أيّ أهمية ولا يقدّم لها العلاج، "مَنْ يساعد الأسرى المرضى هم الأسرى أنفسهم، يقومون برعايتهم وقضاء حاجاتهم والطبخ والتنظيف، ففي كلّ فترة –مثلاً- يتمّ تخصيص أسيرين لمساعدة والدي وهكذا".
ويُبيّن أنه خلال "هبة السّكاكين" كان الاحتلال يُحضر لـ"سجن الرملة" أسرى قد أطلق عليهم الرصاص ويُلقيهم على الأسرّة دون أيّ علاج بل يتركونهم حتى تلتهبَ جروحهم ويصبحون يعانون من أكثر من مرضٍ إلى جانب الإصابة، ولا يحصلون سوى على اجتهادات من زملائهم الأسرى لتخفيفِ آلامهم!
يُشار إلى أنّ الاحتلال الإسرائيلي حكم بالسجن 11 مؤبّدًا على الأسير الشاويش بعد اتّهامه بقتل ثمانية مستوطنين.