رأسه يرتخي بسلامٍ على كوفيةٍ تلف رأسه، مكفنًا بعلم فلسطين؛ تزين نعشه ورود ألقته نسوة يقِفنَ على جانبي الطريق من سلة قروية لحظة استقباله شهيداً، يردد المشيعون: "يا أم نهاد نيالك.. يا ريت أمي بدالك" وهي ذات الكلمات التي كان يُردّدها نهاد البرغوثي ابن العشرين عامًا، أمام والدة جاره وصديقه الشهيد عمار الطيراوي قبل خمس سنوات، وأيضًا رددها كثيرًا لأمهات الشهداء.
رسم نهاد ابن قرية كفر عين قضاء رام الله عرسه؛ واختار بنفسه الميتة التي يحبها، وترك لمن سيعبر الطريق بعده كلمات تذكرهم بمفتاح العبور "احذروا الموت الطبيعي، ولا تموتوا إلا بين زخات الرصاص".
حذّر من الموت الطبيعي؛ فكان جريحًا أُصيب ثلاث مرات وأسيرًا اعتُقل أيضًا بنفس عدد مرات إصابته، واختتم طريقه المقاوم بالشهادة، برصاصة إسرائيلية اخترقت بطنه خلال مواجهات مع قوات الاحتلال بقرية النبي صالح الثلاثاء الماضي.
يطلُّ شقيقه إيهاب على آخر يومٍ جمعهما معًا "جلسنا معًا قبلها بيوم، أخبرني أنه سيزور بيت شقيقتي، وأصدقائه، ووالدة الأسير ناصر أبو حميد، وقتها أهداني ساعة لكنني أخبرته أنّ لديّ ساعة فأصرّ عليَّ وكانت آخر ذكرى جمعتني به، ثم طلب مني الذهاب معه في جولته؛ فاعتذرت عن ذلك".
اتصالٌ هاتفيٌّ يرد إيهاب -الساعة الثانية ظهرًا في اليوم التالي- صوت مرتبك، وأنفاسٌ متقطّعة طرقت أذنه "أخوك مصاب!" لم يصدق فلا أحداث تشي بوجود مواجهات بين الشبان وقوات الاحتلال "أعطيني إياه أكلمه.. شكلك بتمزح" ليؤكّد المتصل كلامه، ويطلب منه القدوم حالًا للمشفى.
يستمع مراسل "فلسطين أون لاين" لبقية التفاصيل "ذهبت ورأيته مستشهدًا، نظرت إليه وهو ممددٌ بدمائه، ومرّت عليه محطّات في مقارعته للاحتلال، وكيف كان يتمنى الشهادة حتى رُزق بها؛ لكننا كأهلٍ يعزُّ علينا فراقه".
لطالما كانت هناك جلسات مراجعة بين الشقيقين، يقترب صوت شقيقه من تفاصيل إصابة خطرة تعرّض لها نهاد قبل عامين "أصابته رصاصة حية بالرقبة خلال إحدى المواجهات، وبعد خروجه من المشفى جلست معه وقلت له: بكفي اقعد، واهدى، لكنني تفاجأت بردّه وإصراره: "المرة هاي ما زبطت معي .. إن شاء الله بتزبط".
"مستقبلي الجنة"
الموقف السابق، ينقله لحوار آخر مشابه "سألته مرة، ما تخطيطك للمستقبل؟ فأجابني: "مستقبلي بالجنة" اعتقدت يومها أنّ هدوء الأحداث قد يدفعه للاستجابة لكلامي والإنصات لي، ولم أدرِ أنّ رده سيكون مختلفًا أيضًا: "قد لا يكون هناك أحداثٌ اليوم.. لكنّ مشاهد الشهداء والاشتباكات لا تذهب من تفكيري".
لم يملك إيهاب إلا الدعاء لشقيقه المُقبل على الشهادة "طالما أنت مُصمّم عليها.. ربّنا يناولك إياها" دعاءٌ انتزع ضحكة من نهاد قبل انفضاض المجلس بينهما "أيوة؛ هدا الحكي اللي بحب أسمعه".
ينقل إيهاب عن شهود عيان، أنّ شقيقه عندما عاد من زيارته الاجتماعية، شاهد تجمُّعًا للشبان لا يتجاوز عشرة شباب عند قرية "النبي صالح" وبمجرّد وصوله للمكان أطلق جنودُ الاحتلال الرصاص عليه مباشرة، عن سبق إصرارٍ وترصّد فارتقى شهيدًا.
يملك دليلًا على أنّ ما جرى إعدامٌ مُتعمّد، مُستذكرًا حادثةً وقعت قبل عامٍ تدلل على نيّة الاحتلال تصفية شقيقه: "قبل يوم زفاف شقيقي مروان، اقتحم جنود الاحتلال ليلة الفرح منزلنا بهدف اعتقال نهاد لكنه لم يكن موجودًا، فاعتقلوا شقيقه العريس للضغط عليه لتسليم نفسه، وعندما رجع نهاد للبيت وعلم بالتفاصيل، أصرَّ على تسليم نفسه واعتُقل لمدة عام وأُفرج عنه قبل ستة أشهر".
لكن ما علِق في ذاكرة شقيق الشهيد ليس الاعتقال فحسب بل تهديد قائد المنطقة في جيش الاحتلال لهم لحظة الإفراج عنه "إذا ما زبط الاعتقال، ولا الإصابة معه، راح نجيبلكم إيّاه محمولا على نعش".
ثلاث بصمات
ثلاث إصابات تركت بصمتها في أنحاء جسده بعض آثارها لا زالت عالقةً في رأسه، تضاف إلى أكثر من سنة اعتقال، لكن على الميدان كانت هناك مسيرة حافلة في مقارعة الاحتلال بدأت في سنٍ مبكر فلم يتجاوز سنه الثانية عشر من عمره، عندما ألقى أول حجر على جيش الاحتلال وكانت والدته تذهب إلى أماكن المواجهات لتعيده للمنزل.
لم يؤمن نهاد بالمقاومة "الشعبية والسلمية" كطريق يمكن أن يطرد المحتل الذي لن يرحل بـ "غصن زيتون" وكأنَّ (كنفاني) تغنى به حين قال "أموت وسلاحي بيدي، لا أحيا وسلاحي بيد عدوي"، "تربى نهاد على حب الوطن والمقاومة المسلحة، والاشتباك دائما مع الاحتلال كان يقارع الاحتلال في كل القرى المجاورة، بمجرد أن يسمع عن اشتباكات، أو مواجهة، أو يصله اتصال من الشبان كان أول الوافدين حتى أن قائد المنطقة في جيش الاحتلال يعرفه تمامًا، ووضعه على مجهر الملاحقة" يسلط شقيقه الضوء على جانب مشرق من حياة الشهيد".
نهاد الذي استخدم المولوتوف والحجارة ضد جيش الاحتلال سنوات طويلة، امتلك سلاح "كارلو" وعلى بدائيته أمام جنود الاحتلال المدججين بالسلاح إلا أنه نجح في إرباكهم، لا يتذكر شقيقه إلا حادثة واحدة عرفها فقط حينما تعرضت قوات الاحتلال لإطلاق نار في الشهور الماضية وتداول الاحتلال وأهالي القرية اسم شقيقه، فيما بقيت الكثير من الأشياء طي الكتمان.
عشق بطل فلسطين الجديد المقاومة، والبندقية، كان دائمًا يحرص على زيارة أهالي الشهداء والمشاركة بمراسم استقبال الأسرى، تغلب الدموع شقيقه وهو يرثيه "تشعر وكأنه باع الدنيا منذ طفولته، كان شديد النشاط في مواجهة الاحتلال، ورغم أن أبي عرض عليه الزواج وبناء شقة، لكنه رفض ولا زلت أتذكر رده لوالدي: راح أورجيك عرسي لما استشهد، قديش ناس حتحضر".
حدد نهاد مراسم استقباله عريسًا، فطلب من والده وضع النساء بمكان حدده، والرجال أيضًا، وطلب تغطيته بالكوفية وعلم فلسطين، وأين يجب ركن السيارات ومكان انطلاق الجنازة "صار عرسه زي ما تمنى" قال شقيقه بصوتٍ تخنقه الدموع.
خرج الشهيد من بيت مناضل فوالده أسير وجريح أمضى خمس سنوات في سجون الاحتلال، فورث حب المقاومة عن والده، فله أخ أسير وجريح أيضًا، هذا الشاب الذي ولد في السادس عشر من أكتوبر/ تشرين أول 2002م في ذروة انتفاضة الأقصى، أسماه والده على اسم شهيد قام والده بمحاولة إسعافه، والآن تجاور روحه ذاك الشهيد.