وقف عاطف النيص على باب المدرسة الساعة التاسعة بعد أن انتهى طلابه من تقديم الامتحان نهاية ديسمبر/ كانون الأول الماضي، وإذا بصوت ضابط مخابرات إسرائيلي يأتيه عبر هاتفه المحمول "بدنا نهد دارك".
عاطف: "شو مأثرة عليك الدار؟ هادي أرضي".
ضابط المخابرات: "مين حكى؟ الدار مش الك، هيا إلك بس ممنوع تبني فيها".
انفعل عاطف عليه: ليش خلتوني أسكن الدار وتيجوا تهدوها.
طوى النيص الأرض طيًّا من مدرسته إلى بيته ببلدة نحالين غربي بيت لحم جنوب الضفة الغربية، وتمكن من الوصول قبل وصول جرافات و"بواقر" وجنود الاحتلال الإسرائيلي، وما إن وصل الضابط اتصل به مرة ثانية وهو يزبد ويرعد: ما بدكم تطلعوا بالمنيح؟ ليجيب بثبات: "لاء بدناش نطلع هادي دارنا".
ما إن أنهى عاطف (36 عامًا) المكالمة حتى انهالت عليهم قنابل الغاز من النوافذ، واقتحم جنود الاحتلال البيت وأخرجوه بالقوة مع زوجته وطفليه وأمه المسنة، ودار عراك بينهم.
بدأت "البواقر" الإسرائيلية بهدم البيت الذي سكنه النيص منذ أربعة أشهر وقد غطى الغبار المكان.. صاح عاطف على أهله بالابتعاد خشية إصابتهم بالحجارة، سريعًا أخذ يتلفت من حوله يبحث عن أميرة (14 شهرًا).. صاح على زوجته "وين أميرة؟!"، صرخت: "البنت نايمة فوق على التخت".
انهارت الزوجة هبة، وركض عاطف نحو الضابط الإسرائيلي صارخًا بأعلى صوته "وقفوا الهدم البنت فوق"، استمر بالصراخ والضابط يصم آذانه لدقائق كانت الأثقل على قلب الأب طوال حياته، لم يذعن الضابط لصراخه ظنًّا منه أنه يكذب لتعود العائلة مجددًا للاحتماء داخل البيت.
أخيرًا تنفس عاطف وزوجته الصعداء، بعد أن أمر الضابط الاحتلالي مجندة بالدخول إلى المنزل وهي تشهر سلاحها خائفة، مرت بضع دقائق حتى خرجت أميرة.. تهللت أسارير عائلة النيص وسط ذهول الأبوين، فما إن وضعت المجندة أميرة على مدخل البيت حتى مشت الطفلة على قدميها.. كانت تلك خطوات أميرة الأولى.
بنى عاطف بيته حجرًا على حجر بعد سنوات من الشقاء والتعب، فقد تزوج قبل 12 عامًا في بيت أخيه. رزقه الله بثلاثة أطفال وأراد الاستقرار في بيت خاص به، ولم يكُن أمامه سوى قطعة أرض ورثها عن والده في المنطقة المصنفة (ج)، وتحيط بها مجموعة من المستوطنات.
يقول عاطف لـ"فلسطين": "بيتي يبعد عن أقرب مستوطنة 10 كيلو متر، ولهذا السبب لم أتوقع أن يهدمه الاحتلال، وقد أتممت بناءه خلال عام وطوال هذه المدة لم يصل إليَّ أي إخطار أو قرار بمنع البناء".
يتابع: "في أحد الأيام كنت في دوامي كالعادة وإذا بأحد جيراني يتصل بي بأن جيبات جيش الاحتلال تطوق البيت، وسرعان ما غادروا وتركوا ورقة بها قرار إزالة خلال 96 ساعة دون سابق إنذار".
توجه عاطف على الفور إلى ما يسمى "الإدارة المدنية" التابعة لجيش الاحتلال والتي رفضت استقباله، ثم إلى مؤسسة حقوقية تختص بشؤون البيوت المهددة، لعله يوقف أمر الهدم.
يضيف: "حينما نظر محامي المؤسسة للقرار أخبرني بأنه من الصعب إيقاف الهدم، لأنه أمر إداري صادر من الحاكم العسكري الإسرائيلي، ولكن قال لي سنقدم استرحامًا".
بعد أربعة أيام تفاجأ عاطف بقوات من جيش الاحتلال تحاصر البيت، لهدمه على الفور دون إعطائه مهلة بالخروج.
مع انهيار حجارة البيت، انهالت هبة وهي التي انتظرت لسنوات حتى تنهي بيت أحلامها، تتعارك مع المجندة الإسرائيلية التي أخذت ترش غاز الفلفل في وجهها، وأطفالها بجوارها يبحثون بين الركام عن كتبهم فهم كانوا في فترة امتحانات نهاية الفصل الأول.
تقول هبة: "حينما اكتشفت أنني نسيت ابنتي أميرة في البيت، أصبت بانهيار عصبي، لم أعد أهتم بهدم البيت بقدر اهتمامي بخروج ابنتي سالمة من البيت ولا سيما أن الآليات الإسرائيلية كانت قد شرعت في الهدم".
عادت هبة وعائلتها إلى نقطة الصفر، بعد أن فقدت بيت العمر الذي كلفها من المال الكثير، اقتطعه زوجها من دخله البسيط، لينتهي كل شيء في غمض عين.