في لحظةِ احتفال طال انتظارها لأربعين شهرًا غيّبت فيها سجون الاحتلال المُحرّر عنان بشكار عن مُخيّم "عسكر" بمدينة نابلس؛ مراسمها لا تعدو عن مُكبّرات صوتٍ تصدح كلمات وأناشيد فلسطينية "يابا كلّ الناس هلّوا بأفراح.. أفراح عيدك يا فلسطين" وأيادٍ ترفرف تحت راياتٍ خضراء زيّنت منزل الأسير تُرافقها راياتُ فصائل أخرى وعلم فلسطين، يُردّدون أيضًا "قسما بالله الجبّار لتعودي يا دار؛ باسم الدين على فلسطين حيفر الغدار".
على مقربة من المكان، كان عناصرُ أمن السلطة أيضًا يُخطّطون لمراسم استقبالٍ خاصّةٍ للأسيرِ المُحرّر باتت مُتكرّرة في الفترة الأخيرة وسمة غالبة في استقبال الأسرى، خمس مركبات تحمل عشرات عناصر أمن السلطة يحملون أدواتهم القمعية، لم يرقْ لهم المشهد السابق دون أن يُنغّصوا على الأسير فرحته، لتنطلقَ قنابل الغاز من بنادقهم وتنهال على جموع المُحتشدين، في مشهدٍ أنزلت فيه دموع المُهنّئين، فاختنقوا، وبكوا، واستغاثوا على مرأى ومسمَعٍ من العالم.
وفي مقاطع فيديو نُشرت لأطفالٍ بأعمارِ سنينهم الأولى وهم مُلقَون على الأرض ومغمى عليهم داخل أحد متاجر بيع المواد الغذائية، ونساء وكبار سن يستصرخون المساعدة، الساحة التي كانت تعجّ بأصواتِ الأناشيد والمُحتشدين أصبحت فارغةً، زوجة المُحرّر بشكار تُعيد رسم الحدث عبر هاتفِ "فلسطين أون لاين": "كُنّا فرحانين كأهل أيّ أسيرٍ خرج من السّجن بعد غيابٍ عن أهله، ننشُدُ لفلسطين وللأسرى ونهتفُ لهم بعدما أحضروا زوجي من الحاجز الإسرائيلي لحظة الإفراج عنه".
فرحة لم تكتمل
تعرض جانبًا آخرَ للاعتداء "رأينا الغاز المُسيل للدموع يتساقط علينا كالمطر، أطفال، كبار، مرضى الجميع رأيناهم يرتمون على الأرض، هذا المشهد يُذكّرني باعتداء الاحتلال علينا بنفس الأسلوب؛ فكان الاعتداءُ مُؤلمًا".
لحظة بدءِ الهجوم، كانت زوجة المُحرّر مع أطفالها هشام (3 سنوات) وحور (5 سنوات) ورهف (11 سنة) وأحفادها الصغار، ومجموعة من النسوة يقفون على باب المنزل، لم ينم الأطفال ليلتهمَ السابقة وهم ينتظرون بلهفةٍ استقبال والدهم، ومعانقته بعد نزوله من أكتاف الرجال، لكنّ قنابل الغاز المُسيل للدموع سبقت والدهم في الوصول إليهم.
مشهد فرّق الأمّ عن أطفالها "لقد عُدت للبيت ولم أستطع رؤيةَ أطفالي وأحفادي وبعدَ نصفِ ساعةٍ وما أن زالَ تأثيرُ الغاز بحثتُ عنهم فوجدتُّهم في بيوتِ الجيران وقد أُجري لهم إسعافات أولية بعد الإغماء عليهم، كانت رهف مُختنقة".
لم يستطع الطفل هشام إغلاق عينيه حتى مُنتصف الليل وحينما جاءت إليه والدتُه تحاول إسدال ستار النُّعاس على عينيه وطمأنته؛ أعرب لها عن مخاوفِه من تجدُّدِ الاعتداء لكنه لم يكن يُدرك ماهية المُعتدي "خايف أنام.. بلاش يجو اليهود تاني" وضعت الأمُّ يدَها على رأسِ طفلِها وأخبرته الحقيقة "هدول سلطة، مش يهود ماما".
تُعلق الأم على مخاوف طفلها "لا نفهم لماذا كلّ الهجوم على الرايات الخضراء، فما حدث لأطفالي صدمة لم نكن نتوقع أن تحدث بهذا الإجرام والاعتداء والهمجية، فبأيّ ذنبٍ يُطلقون القنابل المُسيلة على أسيرٍ مُحرّر ويُغمى عليه!؟ وبأيّ ذنبٍ ينامُ أطفالي مرعوبين؟".
تاريخ من الملاحقة
قبل شهرٍ أفرج الاحتلال عن نجلها عاصم والذي اعتقله منذ يوليو/ تموز الماضي، ولا زال يعتقل نجلها إسلام لمدة عشرين شهرًا، يُركّز الاحتلال مجهر اعتداءاته على العائلة "منذ ثلاث سنوات خلع الاحتلال أبواب بيتي أكثر من ست مرات وكُلّها بدون استئذان" تقول.
لكنّ هذا الموقف لا تنساه في "إحدى مرات الاقتحام خلعوا باب البيت، وكنت أحمي ابني عاصم ووقتها كانت تلفُّ قدمَه جبيرةٌ بعد تعرضها لكسرٍ، وكنا نقف خلف الباب، فأمسكوه وجرُّوه وهو بهذه الحالة، لكنّني تشبّثت به فأطلقوا سراحه، وأثناء صعودنا درج المنزل سمعت سقوط باب المنزل الحديدي على أحد الجنود ولو تأخّرنا بالصعود قليلا لاعتقدوا أنّنا من فعلنا ذلك؛ ورُبّما أصابنا الرصاص الذي أطلقوه حينها".
على مدار 40 شهرًا لم يرَ الأطفالُ والدهم ولطالما كانوا ينهالون على أمّهم بالسؤال عن لحظة عودته، وعندما جاءت اللحظة التي انتظروا فيها معانقته كانت الصورة "مغبشة"، وسالت دموع اختناق ورعب وخوفٍ بدلًا من دموع الفرح؛ لتحرم قنابل الغاز التي وصلت لهشام ورهف وحور قبل والدهم من العناق.
الأسير المحرر عنان بشكار قال لـ "فلسطين أون لاين" مُعقّبًا على الاعتداء، مُطالبًا أجهزة أمن السلطة تصويب مُمارساتها بحقّ الأسرى، وقال، إنّ كلّ أسيرٍ فلسطيني جزءٌ من الشعب ومن حقّه أن يفرحَ بالطريقة التي يريدها ما لم يتجاوز القانون ولم يعتدِ على حقّ أحد، وما دام يمارس حقّه الطبيعي في الاحتفال باجتماع أهله حوله لحظة الإفراج عنه.
ووصف بشكار الاعتداء بأنه خارجٌ عن أخلاقِ ومُعتقدات الشعب الفلسطيني الذي كان ولا يزال يُكرّم الأسرى ويُحافظ عليهم، مُشيرًا إلى أنّ العائلة تستعدُّ لاستقبال عبد الرحيم الغائب عن المُخيّم مُنذُ عشرين عامًا؛ في عرسٍ وطنيّ يتمنّى أن لا تُنغّصه أيادي عناصر الأمن وقنابلهم.
يملك بشكار، سجلاً طويلاً من الملاحقة والأسر بدأت المحطة الأولى، في عام 1991 حيث مكث وقتها فقط خمسة عشر يومًا، وبعدها بعامٍ واحدٍ فقط أُعيد اعتقالُه لمدة ثمانيةَ شهور، وفي عام 1994 اعتُقل مُجدّدا وحُكم لمدّة عامين، وفي عام 2002، اعتُقل عنان مُجدداً وحُكم عليه لمدّة عشرين شهرًا، وفي عام 2014 أُعيد اعتقاله وصدر بحقّه حُكمٌ بالسّجن لمدّة سبعة شهور، واعتُقل نهاية 2018 لمدّة أربعين شهرًا.