وفق القانون الروسي يجب تعديل الوثائق المتعلقة بالتخطيط الاستراتيجي "للأمن القومي" مرة كل ست سنوات على الأقل، لذا أصدرت روسيا منذ انهيار الاتحاد السوفيتي السابق مجموعة من استراتيجيات الأمن القومي بشكل متصاعد بهدف استعادة روسيا لقوتها كدولة فاعلة في العلاقات الدولية، وأول استراتيجية للأمن القومي الروسي صدرت عام 1993، وتلتها استراتيجية صدرت عام 2000، واستمرت حتى تم التعديل عليها عام 2009 بعد أن أثبتت فعاليتها وقدرتها على حماية سيادة قرارها واستقلال شعبها، عندما دخل الجيش الروسي في أغسطس 2008 إقليم أوسيتا الجنوبية في جورجيا ذات الغالبية الروسية والذي يتمتع بحكم ذاتي، لفرض سيطرتها الأمنية عليها وطرد الجنود الجورجيين منها بقوة السلاح، ثم جاءت استراتيجية الأمن القومي الروسي عام 2015، بعد أن تدخلت روسيا عسكريا في أحداث أوكرانيا عام 2014م بسبب عزل الرئيس الموالي لها، وانتهت بضمها شبه جزيرة القرم، واستمر العمل بها حتي صدور الاستراتيجية النهائية للأمن القومي الروسي عام 2021، حيث جاء إعلان هذه الاستراتيجية الجديدة، بعد 3 أشهر من إعلان الرئيس الأمريكي جو بايدن استراتيجية الأمن القومي الأمريكي في مارس 2021، والتي وضعت روسيا والصين كمنافسين استراتيجيين للولايات المتحدة عالمياً، مثلما فعل الرئيس السابق ترامب، وبهذا لم تختلف إدارة الديمقراطيين عن رؤية الجمهوريين لروسيا، وهنا رغم أن الاستراتيجية الروسية الجديدة جاءت في 40 صفحة نذكر أهم ما جاء فيها.
- الحفاظ على الشعب الروسي أولوية قصوى للدولة.
- روسيا تسعى إلى زيادة القابلية للتنبؤ والثقة والأمن في المجال الدولي
- العالم المعاصر يمر بمرحلة تحول مع زيادة خطر تحول نزاعات مسلحة إلى حروب إقليمية ستشمل خاصة دولا ذات ترسانة نووية.
- العمل جار في العالم بنشاط على تحويل المجال الفضائي والمعلوماتي إلى مجال جديدة لخوض القتال.
- بعض الدول تبذل جهودا عدائية بهدف تدمير روابط روسيا مع حلفائها التقليديين.
- روسيا أظهرت للعالم أجمع قدرتها على الصمود والتصدي للضغوطات الممارسة من خلال العقوبات.
- عدد من الدول في العالم تصنف روسيا بـ"تهديد" وحتى "خصم عسكري"
- تدرب حلف الناتو على سيناريوهات استخدام السلاح النووي ضد روسيا يزيد من المخاطر العسكرية التي تواجهها البلاد.
- جيوش عدد من الدول تتدرب على إعطاب مواقع البنى التحتية ذات الأهمية القصوى في روسيا.
- من حق روسيا اتخاذ إجراءات مناسبة وغير مناسبة لمنع وإحباط أي أعمال غير عدائية تشكل خطرا على سيادتها ووحدة أراضيها.
ووفق نظرية خبراء التخطيط الاستراتيجي «الاستجابة والتحدي»، القائلة إن بقاء الدول وقوتها واستقرارها يتوقف على قدرتها على الاستجابة للتحديات الطارئة أو الدائمة، لذا ترى القيادة الروسية، ضرورة أن تكون هناك استجابة للتحديات الجديدة التي أقدمت عليها الولايات المتحدة الأمريكية، والمرتبطة بتوسعة حلف الناتو وضم الدول السوفيتية السابقة بشكل متواصل، واقترابه من الحدود الروسية، وكذلك نشاط الحلف العسكري الذي يسعى إلى رفع قدرته الهجومية وتحديثها من خلال مناورات الناتو بالقرب من الحدود الروسية، بالإضافة إلي نشر منظومة الدرع الصاروخية العالمية متوسطة وبعيدة المدي، وتركيزها بمحيط وغلاف روسيا، مثل أوروبا ومنطقة آسيا والمحيط الهادي، مما يشكل تهديداً للاستقرار الاستراتيجي والأمن الدولي، يهدف إلي فرض واشنطن قيودًا على استقلالية السياسة الروسية.
وكذلك تنظر روسيا بقلق شديد تجاه كل ما يحدث على حدودها، خاصة الصراع المحتدم بين الداعمين لعلاقة مع موسكو، وبين الذين يسعون للدخول للاتحاد الأوروبي، كما هو الحال في جورجيا وبيلاروسيا وأوكرانيا، فروسيا تنظر للصراع بين الحكومة الأوكرانية وإدارة الحكم الذاتي في إقليم الدونباس ولوغانسك جنوب شرق أوكرانيا، للمواطنين الناطقين بالروسية، على أنه استهداف مباشر لروسيا، لأنها ضمت شبه جزيرة القرم من أوكرانيا عام 2014، خوفا من أن "حلف الناتو" قد يستخدم الأراضي الأوكرانية في نهاية المطاف لنشر صواريخ هجومية قادرة على الوصول إلى مراكز القيادة الروسية في غضون خمس دقائق فقط، ووفقاً لوثيقة الأمن القومي الجديدة فروسيا، تعتبر بأن لها الحق في العمل على إزالة ومنع ظهور بؤر التوتر والصراعات في أراضي الدول المجاورة لروسيا.
لذا أشارت الوثيقة إلى التحذير من حروب إقليمية قد تتورط فيها دول نووية عندما قالت إن «العالم المعاصر يمر بمرحلة تحول مع زيادة تحول نزاعات مسلحة إلى حروب إقليمية تشمل دولاً ذات ترسانة نووية».
ونستنتج هنا من تعدد استراتيجيات الأمن القومي وتعديلاتها، التي تدل بصورةٍ واضحة إلى تزايد ثقة روسيا بنفسها، ومراكمتها نجاحاتٍ أعادتها لاعباً فاعلا في النظام الدولي، لتحقيق هدف مركزي، وهو الوصول إلى عالمٍ متعدّد الأقطاب.
وكذلك فإن القاسم المشترك بين الاستراتيجيات التي تطبقها موسكو منذ 2009 وحتى الآن هو شعورها المتزايد بالخطر الوجودي من توسعة واقتراب حلف الناتو من الأراضي الروسية.
وأيضا نستنتج كيف نفّذت روسيا استراتيجيتها للأمن القومي في ظل التهديدات والأزمات الخطِيرة والمتنوعة، منها أزمة استعادة الاستقرار في جورجيا عام 2008 من خلال التدخل العسكري لدعم إقليم أوسيتا الجنوبية، وكذلك كيف تعاملت مع أحداث "الربيع العربي" عام 2011 وما صاحبها من انتشار للإرهاب، وسيطرة المنظّمات الإرهابية "داعش" على مساحات كبيرة في عدد من دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فتدخلت روسيا عسكريا في دعم حلفائها في ليبيا وسوريا، وأيضا تعاملها مع الأزمة الأوكرانية الداخلية عام 2014، بعد عزل الرئيس الأوكراني حليفها، وتدخل روسيا العسكري لحلها وضمها شبه جزيرة القرم، بالإضافة لتعاملها في النزاع المتجدِّد بين أرمينيا وأذربيجان عام 2020، ودعمها العسكري الكبير لأرمينيا، وانتهاءً بالتدخل العسكري الميداني في حل الأزمة الداخلية بكازخستان ودعم حليفها الرئيس الحالي، خلال شهر يناير لهذا العام 2022.
بناء على ما سبق من التحليل وقراءة المشهد فإن السيناريوهات المتوقعة ما يلي:
1- أن يتراجع حلف الناتو عن سعيه للتوسع والاقتراب من حدود روسيا، من خلال منع ضم أوكرانيا له وعدم نشر منظومة الدرع الصاروخية بالقرب منها، وبالتالي لا تتدخل روسيا عسكريا بأوكرانيا.
2- تدخل روسيا عسكريا في مناطق إقليم الدونباس بأوكرانيا، لبسط سيطرتها الأمنية ومد نفوذها لحماية مواطنيها وحدودها وعمقها الجغرافي، كما تعاملت مع أحداث كازخستان خلال يناير 2022م.
وإجمالا فإن السيناريو الثاني يبدو الأكثر واقعيا، من خلال استعراضنا لتطور استراتيجيات الأمن القومي، وأهم بنود الاستراتيجية الجديدة، والأسباب الحقيقية للأزمة الأوكرانية الروسية، ورغبة الولايات المتحدة الأمريكية بإشغال روسيا بصراعات داخلية وحروب استنزافية، ومعرفتنا بوسائل وأدوات علاج روسيا لمهدداتها والمخاطر التي تواجهها، سوف تستخدم روسيا التدخل العسكري المباشر في أوكرانيا "إقليم الدونباس" لبسط نفوذها وسيطرتها الأمنية، متمسكة بمبدأ الأمن الغير قابل للتجزئة.