عيناها لم يجف الدمع فيهما منذ لحظة معرفتها بخبر اعتقال فلذة كبدها نور الدين، فقد جافاهما النوم طيلة الـ17 ليلة، تنعسان مع بداية بزوغ يوم جديد، لتنهض فزعة من سريرها مفتقدة همسات اعتاد سماعها من فلذة كبدها "الله يصبحك بأنوار النبي يمّا"، مقبلًا رأسها ويدها وقدمها، ثم يكمل: "أنا متسهل ادعيلي يما وارضي عليا".
تبحث سهيلة الجربوع عن نورها ويتهيأ لها بأنه سيدخل عليها الآن، لكنها تعود للواقع الأليم مستذكرة أن أبناء جلدتها ممن يسمون زورًا "أجهزة أمنية" يفترض بهم حماية شعبهم هم من يعتقلونه سياسيًّا دون أن تعرف عن مصيره شيئا.
ذرفت سهيلة (67 عامًا) الدموع وسمعت صحيفة "فلسطين" أنين بكائها لمجرد بدء الحديث معها عن نور الدين، وهو محرر من مخيم جنين شمال الضفة الغربية المحتلة.
تقول: "أنا صاحبة أمراض تنهش جسدي الضعيف من سكري وضغط ووجع بكل المفاصل، ونور هو من يقوم بي، ويساعدني، هو اللي فاتح الدار عليا في ظل بُعد سكن أبنائي الثلاثة عني".
20 يومًا بين اعتقاله هذه المرة والتي سبقتها من قبل مخابرات السلطة، غير كفيلة بأن تنسيه معاناة 25 يومًا قضاها بعيدًا عن أحضان أسرته المكونة حديثًا، حيث أفرج عنه دون عرض على محكمة أو إثبات أي تهمة، ليعاد اعتقاله من قبل جهاز "الأمن الوطني" في 23 يناير/ كانون الثاني الماضي خلال عمله على بسطة لبيع الملابس أمام مستشفى حكومي في وضح النهار وتحت أعين الجميع.
تضيف والدته: "طيلة الأيام الماضية لم نعرف شيئًا عن مصير نور، ولكن وصلت لنا بعض الأخبار أنه في سجن أريحا، أقصد مسلخ، ومضرب عن الطعام والشراب، وتم نقله إلى المستشفى".
وبصوت مختنق تكمل: "ما في أي اتصال أو خبر يبرد نار قلبي، مش عارفين شو نعمل ولمين نتوجه، أطلب من الفصائل الفلسطينية حل مشكلة المخيم والوقوف بوجه الاعتقالات السياسية ورجال السلطة الذين يعملون سندًا للاحتلال الإسرائيلي".
وبعد تنهيدة طويلة زفرت بها أنفاسها الموجوعة، تروي ارتباطها الوثيق بنور الدين: "نور آخر العنقود، علاقتي فيه قوية ومتعلقة فيه بصورة كبيرة، هو الروح اللي بتنفس فيها، حرقوا قلبي من جوا باعتقاله وتغييبه عن البيت، أفنيت كل عمري من أجل تربيتهم".
وتتابع: "لما توفي زوجي كان نور يا دوب عامين، تحملت الصعاب من أجله وأشقائه الثلاثة، أبيع على البسطات لتوفير حياة كريمة لهم، حتى شبوا واستطاعوا الوقوف على أقدامهم".
اليوم تصطدم سهيلة بواقع لا يمكن استيعابه بقيام أمن السلطة باعتقال وتعذيب أبنائها وتسليمهم للاحتلال، إذ سبق أن سُجن ابنها البكر في معتقل أريحا قبل عامين ولا يزال يعاني آلاما في عضلات الكتف بسبب التعذيب بالشبح.
أن تنام منتظرًا السلطة
ليس بيد الأم المقهورة سوى أن تستودعهم الله فداء لخالقهم والوطن كما تفعل صبيحة كل يوم، "الله كبير ورامية حملي عليه، شو ربنا كاتب راضية بقضائه وقدره، ولكن أدعوه أن يعطيني الصبر، ويجعل ما يتعرض له من تعذيب سواء من اليهود أو السلطة أجرا وثوابا لي ولأبنائي".
ومن كثرة اقتحامات السلطة لبيتها بحثًا عن أبنائها، باتت في بعض الأيام تنام خلف باب البيت خوفًا على أبنائها، وفي إحدى المرات من كثرة حالة الضغط التي تسببوا لها بها فتحت جرة الغاز على المقتحمين للمنزل.
تستكمل الأم سهيلة: "لم يبخل علي يومًا بماله، فكان دائمًا يقول لي آخر شي بفكر فيه المصاري، يقدم مساعدته للغني والفقر، ويحن على الصغير"، صمتت ليلهج لسانها بالدعاء له بالفرج القريب وأن يرده الله سالمًا غانمًا لزوجته وابنته، و"ربنا ياخد حقنا من الخون والسلطة".
"بدك تتعودي!"
أما زوجته أنسام (22 عامًا) فلم تتقبل حتى اليوم فكرة غيابه عن البيت، رغم أنها المرة الثانية التي يعتقل فيها منذ ارتباطهما قبل عام ونصف العام، فمنذ اعتقل سياسيًّا لم تطأ قدمها باب شقتهما، وترفض دخولها دونه.
تقول: "مش متعودة يبعد عني نور، فقد استطاع أن يسلب قلبي وينسج علاقة قوية بيننا، ليكن خبر اعتقاله للمرة الثانية خلال مدة قصيرة صدمة لي، لم أصدق في بداية الأمر، لكن عندما حل الظلام ولم يعد للبيت بات الأمر يقينًا خاصة أنه لم يعتقل من البيت وأمامي لأستطيع استيعاب الحدث".
وفي بداية ارتباطها به كان يحدثها عن إمكانية تعرضه للاعتقال، لكونه حديث عهد بالإفراج من سجون الاحتلال، فتنظر إلى عينيه مشدوهة ليؤكد لها صحة ما يقوله: "بدك تتعودي" ولم تقتنع إلا بعدما بات الأمر حقيقة.
تضع أنسام ابنتها الرضيعة (6 أشهر) في حضنها، تحدثها لتطمئن قلبها "إن شاء الله يا ماما بابا راح يرجع بسرعة وينور الدار كمان مرة وما تطول غيبته علينا".
وإذ تعبر أنسام عن خوفها على نور الدين، حيث يعاني أزمة صدرية ووجعا في ساقيه يزداد في فترات البرد، وتراودها تساؤلات بلا إجابة عن حالته الصحية، تواسي نفسها بخروج حتمي يحققان به أحلامهما الكبيرة في تأسيس عمل خاص، وبيت بعيد عن قرقعات المخيم.