فلسطين أون لاين

جعلت السجن ساحة مواجهة

حوار خالدة جرار.. مناضلة تعود للقيادة بعد أسر وفقد

...
حوار/ يحيى اليعقوبي:
  • في قسم الأسيرات لا يوجد هواتف ووسائل الاتصال مع العائلة معدومة
  • تعمد الاحتلال إرهاقي بالاعتقالات وبدأ ذلك بوجودي بظروف صعبة بمعبار "الشارون"
  • استطعت تأسيس نظام تعليم ثانوي ثم جامعي للأسيرات معترف به من التربية والتعليم
  • وفاة ابنتي "سهى" كانت صدمة والالتفاف الشعبي وعبارات التضامن خففت وطأة الفراق

أمضت عامين في سجون الاحتلال في تجربة أسرها الجديد؛ أضيفت لثلاث سنوات أسرٍ سابقة غيبت فيها داخل قضبان الاحتلال، عادت إلى الحياة بعد وفاة ابنتها "سهى" التي حرمت من إلقاء نظرة الوداع عليها فودعتها بدمعات حزنٍ عانقت بها خالدة جرار روح ابنتها رغم أن المسافة التي فصلت وفاتها عن موعد انقضاء مدة حكمها هي شهران.

لم تخرج مكسورة الجناحين كما أرد السجان الذي اعتقد أنها ستعتزل الحياة السياسة بعدما سلط عليها سيف الاعتقالات المتتالية، فجعلت السجن ساحةً أخرى للعمل والمواجهة فترشحت للانتخابات التشريعية، بعدما وجه إليها الاحتلال تهما بـ "العضوية في المجلس التشريعي، وتبوء منصب قيادي في تنظيم محظور" وهي التهم ذاتها التي وجدتها في "ملف سري" عند اعتقالها عام 2017، وكذلك 2019 قبل الإفراج عنها أواخر أيلول/ سبتمبر الماضي.

جرار التي منعت من السفر سنوات طويلة منذ نهاية التسعينيات، رممت جراح قلبها، فخرجت بعد أسر وفقد أكثر صلابة وتمسكًا بمواقفها ومبادئها التي سجنت من أجلها.

يعرفُ عنها التزامها بالمواعيد ودقتها في تنظيم وقتها، أعطتنا موعدًا عند الساعة الحادية عشرة صباحًا، ومن أول اتصال كانت جاهزة للحوار الذي حددنا محاوره مسبقًا عبر ثلاثين دقيقة اصطحبت القيادية في الجبهة الشعبية خالدة جرار "فلسطين" عبر الهاتف إلى محطات عديدة من أسرها الأخير، حركت بعيونها مشاهد من معاناة الأسيرات، ننقلها لكم في هذا الحوار.

لم يغب الصوت!

ربما كان هدف الاحتلال من أسرك قتل إرادتكِ، كيف تعود خالدة جرار للقيادة اليوم!؟، بصوتٍ صلب متماسك تحركت إجابتها على أول أسئلتنا "الاحتلال يستهدف من الاعتقالات المتواصلة لي عدة أهداف، أولها تغييب صوتنا بإبقائنا في الأسر وإرهاقنا في الاعتقالات المتواصلة حتى لا أستطيع تنظيم حياتي".

لكن شخصيتها تختلف عما يريده الاحتلال "قناعتي أن الأسر لن يثني عزيمة الإنسان، فنحن شعب تحت احتلال، يرفض وجود الاحتلال وتجلياته، هناك تجارب قاسية لكنها لا تكسر العزيمة ولا تزعزع القناعات، كوننا جزء من شعب يناضل من أجل حريته وإنهاء الاحتلال وحقوقه الوطنية".

ورغم أن سياسة الاحتلال في الأسر متعبة إلا أن جرار تصفها بـ "سياسة فاشلة ولا تؤثر فينا رغم أنها تحدث تأثيرًا نفسيًا واجتماعيًا لكن الهدف الأساسي للاحتلال لا يتحقق"، فلا تعتقد أيضًا أن الأسرى والأسيرات يمكن أن يغيب صوتهم وتفاعلهم في هذه الأساليب القمعية والملاحقة المتواصلة التي لها علاقة بجرائم الاحتلال وبقائه جاثمًا على أرضنا وتمس الأرض والحجر والإنسان.

من حيث المدة عاشت جرار في أسرها الأخير أطول فترة اعتقال لمدة عامين وكانت الأكثر تأثيرًا في حياتها "كانت هذه الفترة متعبة من عدة نواحي، إذ تعمد الاحتلال إرهاقي والضغط علي بالمراحل الأولى من الأسر، بدأ ذلك بوجودي في ظروف صعبة بمعبار الشارون، ثم نقلي شبه اليومي لمراكز التحقيق والاستجواب بالمحاكم بكل ما ترافقه عمليات النقل من صعوبات".

ساعات طويلة، كانت تظل مقيدة اليدين والقدمين داخل قبر متنقل يسمى "البوسطة" جهز فيه الاحتلال كل أصناف العذاب للفلسطينيين، تستذكر "ظروف المعبار تفتقر للحد الأدنى من الأمور الحياتية البدائية خاصة أنني كنت أوضع في زنزانة بانتظار التحقيق عبر ساعات طويلة بهدف إرهاقي".

قطع التواصل

رافق أسرها في هذه التجربة، جائحة فيروس "كورونا" الذي حاول الاحتلال استغلالها بقطع التواصل بين الأسرى والأسيرات وعائلاتهم، وكان لها نصيب من ذلك "لم ألتق بعائلتي لمدة تسعة شهور ولم يكن هناك أية وسيلة تواصل مع العالم الخارجي، فقسم الأسيرات يختلف عن الأسرى فلا يوجد هواتف باستثناء زيارة المحامين التي تكون متباعدة وهناك فقدت ابنتي سها".

قادت ابنتها سهى حملة دولية للمطالبة بالإفراج عن أمها، كانت ردود فعل الاحتلال غاضبة على تلك الحملة بعدما وجهت إليه انتقادات دولية على إثرها شن عقابًا جديدًا على جرار فمنع عنها "الكنتينا" (مبلغ شهري تحوله العائلة إلى الأسير لشراء مستلزماته الضرورية) لكن سهى رحلت.

لا زالت الحسرة تسكن قلب والدتها بعد ستة أشهر من فراقها "آخر مرة رأيتها كان في شهر فبراير/ شباط 2021 خلال جلسة محاكمة عن طريق الفيديو لم نستطع وقتها الحديث معا لكنها كانت توجه رسائل عبر الإذاعة وسمعت صوتها قبل وفاتها بيومين في شهر يوليو/ تموز من نفس العام عبرت خلالها عن شوقها".

في عصرنا لا يمكن حجب خبر الوفاة عن أي أحد خاصة حينما نتحدث عن وفاة ابنة قيادية فلسطينية بارزة، لكن خبر وفاة ابنتها تأخر يومًا كاملاً عنها، رافقت الدموع صوتها هنا "توفيت في 12 يوليو/ تموز 2021 وعلمت بوفاتها باليوم التالي عندما جاءني المحامي وقبل وصوله مر علي خبر وفاة ابنة أسيرة لكنني لم أركز بتفاصيله فقط ترحمت عليها وقلت: الله يصبر أهلها، ولم أعلم أن المحامي سيخبرني بوفاة ابنتي، كانت صدمة ومفاجأة فلم يكن هناك مقدمات لذلك، كان مؤلمًا خاصة أن آخر مرة عانقتها فيها كانت في ليلة اعتقالي في 31 أكتوبر/ تشرين أول 2019".

"الموت شيء لا نستطيع وقفه، فنحن في النهاية بشرٌ نفقد ونتألم ونبكي لكننا نحاول إعادة التوازن الذهني والنفسي لنا وهذه مسألة ليست سهلة، لأنني لم أشارك بأي من مراسم وداعها" لكن ما خفف عنها – كما تقول – هو التفاف الأسيرات حولها، والالتفاف الشعبي، وكلمات التواصل التي عبرت عن "دفء ومصداقية المتضامين والمتضامنات وهي عوامل خففت وطأة الفراق".

"حرموني من وداعكِ بقبلة، أودّعكِ بوردة، فراقكِ موجع، موجع، ولكنّي قوية كقوة جبال وطني الحبيب" هذه رسالة خرجت من السجن عندما توفيت ابنتها، وعندما أفرج عنها اختلفت المراسم وتبدلت فبدلا من استقبال المهنئين بحريتها ذهبت إلى قبر ابنتها سهى، تقف على أطلال الحزن لتستقبل المعزين.

200 كتاب

في الأسر؛ يبدأ روتينها اليومي بالاستيقاظ مبكرًا وممارسة رياضة المشي مدة ساعة تحت كاميرات مراقبة الاحتلال التي تقيد حركة الأسيرات، ثم متابعة نشرات أخبار وبرامج تحليلية ثم التفاعل مع الأسيرات بالغرف الأخرى، لكن جرار التي تحمل درجة الماجستير في دراسات حقوق الإنسان سخرت تخصصها في تعليم الأسيرات خلال اعتقالاتها الثلاثة الأخيرة.

بما أنك قيادية وربما أكبر الأسيرات سنًا كيف كانت علاقتي بهن؟.. انتزع السؤال ضحكةً "لا؛ كان هناك أكبر مني" ثم دخلت في تفاصيل الإجابة واصفةً إياها بأنها "علاقة زمالة وأخوة وأمومة" وقالت، "في الاعتقالات السابقة استطعت تأسيس نظام تعليم ثانوي ثم جامعي للأسيرات الفلسطينيات معترف به من وزارة التربية والتعليم الفلسطينية وهيئة شؤون الأسرى وخرجنا ستة أفواج، وفي الاعتقال الأخير بدأنا التعليم الجامعي بجامعة الأقصى لسبع أسيرات تنطبق عليهم الشروط وكنا نمضي وقتًا لا بأس به من التحضير والتعليم".

جرار التي تحب القراءة كان وقت السجن الطويل فرصة للسفر في رحاب 200 كتاب قرأتهم خلال عامين، وهذه الكتب يفرض الاحتلال رقابة على إدخالها، لكن كانت أكثر رواية تأثرت بها تشابه ظروفها وكأنها كتبت لأجلها "أرسلت لي خصيصا وهي تتحدث عن سيدة من دولة "شيلي" كانت مناضلة فقدت ابنتها بعدما مرضت، ثم بدأت تحكي عن معاناة شعبها، وشعرت أن توقيت إدخالها لي بهدف تقويتي".

الغرفة رقم (11)

في الغرفة رقم (11) بسجن الدامون كانت الأسيرات نورهان عواد، وميسون جبالي، وملك سلمان، ومنى قعدان، وروان أبو زيادة رفيقات جرار بالغرفة، ساعدها وجود أسيرات طالبات جامعيات في عملية التعليم والذي ترافق مع وجودها في الأسر الأخير، وخلال وجودها بالأسر تقدمت جرار قائمة الجبهة الشعبية لخوض غمار الانتخابات التشريعية بعد الأمين العام أحمد سعدات، ونافست في الانتخابات وهي في الأسر لكن التغيير المنشود لم يتم بسبب إلغاء الانتخابات.

في شهر ديسمبر اعتدى الاحتلال على الأسيرات في قسم الدامون تحديدًا الغرفة رقم (11)، هنا ترى حال الأسيرات بعيونها "تخيلت مشهد الاعتداء وتألمت، تخيلت حال القسم واقتحامهم بالليل، خاصة أن هناك أسيرات مريضات عشت معهم لحظات مؤلمة، وجربت العزل حينما حول الاحتلال الغرفة نفسها للعزل".

نظمتِ حملة محاربة للمعبار والبوسطة، لماذا تحديدًا خصصتِ الحملة عن هاتين المسألتين؟ إجابتها نابعة من تجربة مريرة عاشتها استهلتها بتنهيدة عميقة "اعتبرهما أهم مسألتين يجب النضال ضدهن".

تدخل في تفاصيل المعاناة "كنا ننزل للسجن مباشرة الآن هناك معبار تمكث فيه 14 يوما في ظروف صعبة، لا يوجد سوى فرشة من الجلد بدون غطاء، بالقرب منك هناك أسرى مدنيين جنائيين، حشرات وقوارض، أما "البوسطة" وهي حافلة نقل سيئة تخرج بها من الثانية فجرًا وتعود منتصف الليل طوال الوقت تكون مقيدًا، لذلك كانت مطالبنا إلغاء معبار "الشارون" وبعد نضال طويل وإرجاع للوجبات سمح لنا الاحتلال بعشر دقائق للاتصال بعائلاتنا ولم يستجب لمطلب تركيب هاتف عمومي بالسجن".