على بعد عشرة أعوام من الفراق، وقفَ المسن عمر عبد المجيد أسعد الذي طرق ثمانين عامًا من عمره، على أعتَابِ آخر مِحَطَةٍ قبلَ الوصولِ إلى نقطة الأمل، لرؤية أبنائه وأحفاده في أمريكا، بعد أن حاول مرارًا وتكرارًا لقاءهم، بضعة أيامٍ فصلته عن اللقاء بعد حصوله على "لم الشمل" لينهي مسيرة من المعاناة عبر سنين طويلة، لكن جنود الاحتلال حالوا بين الحاج أسعد ورحلته للقاء أولاده.
بين نفحات هواء كانون أول الباردة، وعلى بعد مسافة كيلو متر من منزله في قرية "جلجيليا" شمال رام الله، كان المسن عمر يجلس مع أقاربه، يستأنس مع أبناء جيله منهم في جلسةٍ مسائية يومية يهرب بها من الفراغ الذي يجتاح حياته.
تجاوزت الساعةُ الثانية عشرة منتصف ليلة الثلاثاء، غلب النعاس ابن عمه عبد الإله أسعد وأغلق النوم ستاره عليه فانسحب من المجلس، بينما ظلَّ الحاج عمر لساعتين إضافيتين قبل مغادرته الجلسة متجهًا نحو منزله حيث يعيش هو وزوجته وحيدين.
جريمة مركبة
"الحاج اعتاد يوميًا على السهر في جلسة ختيارية، فنسهر حتى منتصف الليل لكنه تأخر وكان سعيدًا بالحديث مع أحد أقاربنا يتبادلون أطراف الحديث عن الذكريات والأبناء ثم عاد بسيارته لمنزله الذي يبعد عن منزلنا مسافة كيلو مترٍ فقط".. بحسب ما يروي ابن عمه عبد الإله لـ"فلسطين أون لاين".
بقايا التفاصيل ينقلها عبر الطرف الآخر من الهاتف نقلاً عن شهودِ عيان تواجدوا بالمكان "أثناء عودته بسيارته، أوقفه مجموعةٌ من جنود الاحتلال وسألوه عن هويته، فأظهر لهم جواز سفره الأمريكي، الجيران أخبرونا أنهم شاهدوا جنود الاحتلال ينزلوه من سيارته بقسوة، ثم قاموا بجره وسحله على الأرض لمسافةِ 200 متر وهذا ما لاحظناه من ملابسه الممزقة، رغم أنه متقدم بالسن وهو مريض قلب وقد أجرى عملية "قلب مفتوح" ويعاني من أمراضٍ مزمنة".
تجاعيد المسن تحمل وجع التهجير وآلام النكبة، وفي ملامح جنود الاحتلال حقد، وغطرسة، يتألم المسن عمر ويصرخ وهو يجر على الأرض، عصاه بصعوبة ترفعه وتحمل ثقل جسمه فكيف له مقاومة السحل والضرب والاعتداء!؟ أما جنود الاحتلال فأشهروا بنادقهم واستقووا على رجل مسن فقط لأنه فلسطيني، لم يستلم صك الاعتراف بجنسيته بعد.
وكأن عبد الإله يرسم في كلامه لوحة من الجراح، وهو يصف بقية التفاصيل "كان مقيد اليدين وهو يسحب، وأغلق الجنود فمه بشريط لاصق، وتركوه على هذا الوضع داخل بناية قيد الإنشاء، وبعد ساعتين اعتقل الجنود عددًا من بائعي الخضار ووضعوهم بنفس المكان".
يكمل وفي صوته غصة حزنٍ على رحيل رفيق دربه وابن عمه "قال لي أحد الشباب: رأيت أحد الجنود يتحسس نبض الحاج عمر بعدما لاحظوا اختناقه، ثم تركوه وانسحبوا من المكان بعدما أدركوا أنه استشهد، فنقله الجيران والشباب إلى مستوصف البلدة وحاول الطبيب إسعافه لكنه كان مستشهدًا، ثم جرى تحويله بواسطة الإسعاف لمشفى رام الله لعرضه على الطب الشرعي".
يتساءل بغضب "رجل مسن يناهز عمره ثمانين عامًا يرمونه على الأرض ويقيدونه، وهو مريض قلب مفتوح فأين الإنسانية!؟ لا يحترمون كبيرًا ولا صغيرًا، ابن عمي عمر رجل كبير في السن وهو بالكاد يستطيع المشي عشر خطوات".
لقاء لم يكتمل
لدى العم عمر ستة أبناء (ولدان وأربع بنات) يعيشون في أمريكا، التي أمضى فيها خمسين عامًا، وكان لديه متجر لبيع المواد الغذائية لكنه قرر وزوجته العودة إلى فلسطين عام 2012، ومنذ تلك المدة وهو يحاول استصدار الحصول على "لم شمل" كي يتمكن من السفر لأبنائه، ففي وضعه الحالي – بدون وثيقة شخصية – إن سافر لأمريكا لا يستطيع العودة.
تقاطعه ابتسامة عبرت مجرى الحديث مستحضرًا اللحظات التي جرى فيها الموافقة على استصدار "لم شمل" له: "منذ سنوات وهو يسعى للحصول على الهوية، وكان سعيدًا ويقول لي "هوياتنا بدهن يطلعن وبدي أسافر لأولادي" وكان سعيدًا بأنه سيستطيع السفر والعودة بحرية وكلما اشتاق لأولاده وأحفاده، خاصةً أنه لم ير أبناءه الذكور منذ عشر سنوات، لكن بناته استطعن زيارته قبل عامين".
وفي زحمة الشوق ومرارة الانتظار، كانت الاتصالات الهاتفية ومواقع التواصل الاجتماعي هي وسيلته الوحيدة لتبريد تلك النيران لكنها "لا تعوض لحظة احتضانهم ومعانقتهم وجها لوجه" كما كان يقول لابن عمه، الذي تقطعت حروفه هنا "رحمة الله عليه كان حابب يشوف أولاده وأحفاده كتير لكنه رحل يتجرع مرارة الشوق".
تولى عبد الإله مهمة صعبة، بإبلاغ زوجة عمر باستشهاده، كانت تنتظره على عتبات باب البيت الساعة السادسة صباح اليوم الأربعاء، فقرأت ملامح عبد الإله حينما رأتهُ بوجه شاحبٍ: "عمر مات!؟" كانت كمن يقبض على دقاتِ قلبها بعدما لم يرد زوجها على اتصالاتها الهاتفية، كانت إجابته مختلفة "طولي روحك" وقص عليها الحادثة تدريجيًا حتى وضعت عيناها نقطة النهاية على روح رفيق دربها.