"أنْ تكون في القدس المحتلة فأنتَ مهددٌ بالطرد من منزلك في أي لحظة".. فـ(إسرائيل) لا تترك وسيلة إلا وتغلفها بالقانون "زورًا وبهتانًا" لطرد أهل المدينة من أراضيهم، على حين في الحقيقة هدفها اقتلاع المواطنين من أرضهم وإحلال مستوطنين بدلًا منهم، ومن تلك العائلات عائلة مصطفى التي وجدت نفسها في العراء بعد عشرة أعوام من المماطلة في محاكم الاحتلال دون جدوى.
في بلدة العيسوية إلى الشمال الشرقي من المدينة المحتلة ظلّ الحاج ياسين حسن مصطفى ينافح قوات الاحتلال الإسرائيلي لمدة عشر سنوات، ويرفض كل ألوان التهديد والترغيب من قبل مؤسسات الاحتلال لـ"بيع أرضه".
توفي الحاج ياسين في شهر أغسطس الماضي وهو يوصي أبناءه بعدم التفريط بذرة من الأرض، وهو ما كان، إلا أن قوات الاحتلال الإسرائيلي فاجأتهم في السابع والعشرين من ديسمبر الماضي بأنْ وضعتهم تحت الأمر الواقع واحتشدت بآلياتها أمام المنزل طالبةً إخلاءه فورًا لتقوم بهدمه!
لحظاتٌ مريرة مرت على أبناء الحاج ياسين "امتياز ونضال وعناد" الذين يسكنون هم وأبناؤهم في البناية المؤلفة من ثلاثة طوابق، وهم يرون "تعب العمر" يُهدم حجرًا حجرًا من قبل آليات الاحتلال، على حين لم يستطيعوا أنْ ينتشلوا سوى جزء من أثاثهم فيما توارت "الذكريات" تحت الركام.
ورغم الرحلة المريرة للعائلة بين "أروقة محاكم الاحتلال" منذ قرابة الست سنوات بعد أن تسلمتْ قرارًا بإخلاء المنزل بذريعة "عدم الترخيص" إلا أنْ "المعهود في القدس المحتلة أنّ محاكم الاحتلال لم تنصفْ فلسطينيًا يومًا".
فوقوع أرض العائلة ضمن نطاق مشروع استيطاني تنوي سلطات الاحتلال إقامته يتمثل في مرافق عامة تخدم المستوطنين اليهود، جعل من هدم البيت تمهيدًا لمصادرة الأرض أمرًا مفروغًا منه بالنسبة للاحتلال، ليقرر في مطلع العام الماضي هدم المنزل.
عقبة أمام الاستيطان
تخلل ذلك كما تقول امتياز مصطفى (36 عامًا) مجيء مسؤول من بلدية الاحتلال ليعرض على والدي "تعويضًا سخيًا" مقابل إخلاء الأرض دون مشكلات، فما كان من والدي إلا أن قال له: "أنتم تعتبرونه تعويضًا ولكن نحن نعتبره خيانة وبيعًا للأرض لليهود".
وتضيف: "أكد والدي لهذا المسؤول أنه وأبناءه لن يبيعوا أرضهم وسيتركونها لأحفادهم"، فالعمارة تؤوي 21 فردًا من بينهم شخص من ذوي الإعاقة، هم أسرة امتياز وشقيقيها الاثنيْن يعيشون في ست شقق مساحة كلٍ منها سبعون مترًا فقط.
ورغم أن مساحة الأرض صغيرة لا تزيد على 120 مترًا مربعًا فقط، فإنها تمثل "عقبة كأداء" أمام المشروع الاستيطاني بالمنطقة لكونها تحتوي على بناء، تقول امتياز: "على حين بقية الأرض حولنا عبارة عن مساحات ممتدة من الأراضي الفارغة والتي صادر الاحتلال غالبيتها".
فالمنطقة التي تضم منزل عائلة مصطفى تحيط بها مستوطنات إسرائيلية من الجهات كافة، إذ تزعم سلطات الاحتلال أن أراضي المنطقة "أملاك دولة" لها يستحق لها استرجاعها من الفلسطينيين في أي وقتٍ تشاء وتحرمهم بناءً على ذلك من تراخيص البناء.
ويتنافى هذا كليًا مع حقيقة أن تلك الأراضي ملك للفلسطينيين أبًا عن جد، كما في حالة عائلة مصطفى، إذ تؤكد امتياز أن الأرض ملك لعائلتها توارثوها عن بعضهم بعضًا منذ عشرات السنين، "ولن نفرط فيها وإنْ هدموا بيوتنا، فمن يفرط في أرضه يفرط في عرضه"، تقول مصطفى.
وتضيف: "لن نسلمها لهم وإنْ اغتصبوها رغمًا عنا، فإننا موقنون بأن شعبنا سيتحرر يومًا ما، وستعود أرضنا لنا دون أن يُسجل علينا أننا فرطنا فيها".
وإذ تبين مصطفى أنّ الاحتلال أغاظه صمود العائلة وعدم إخلائهم للبيت، بعد أن سلمهم قرارًا تهويديًا بالهدم الذاتي، فجاءهم بحشد من قواته وآلياته على باب المنزل قبيل أسبوعٍ من المهلة الممنوحة لهم، طالبًا منهم إخلاءه فورًا وأنْ يدفعوا 180 ألف شيقل ثمن تكاليف الهدم الذي نفذته قوات الاحتلال في إجراء مؤلم لا تفعله إلا العنصرية الإسرائيلية في فلسطين المحتلة.
وبهدم المنزل فقدت العائلة أمنها وأمانها، وتشرد أفرادها بين بيوت الأقارب في القدس المحتلة، في حين بقي أطفال العائلة مصابين بالصدمة حتى اللحظة.
تختم امتياز حديثها: "الله يعلم كيف بنينا البيت حجرًا حجرًا في ظل تضييقات الاحتلال على المقدسيين، في نصف ساعة فقط أحالوه لركام".
ورغم لوعة القلب التي يشعر بها جميع أفراد العائلة إلا أنهم -وفقًا لامتياز- رسالتهم واحدة للاحتلال "مهما فعلتم وحاولتم إخراجنا من بلادنا، فلن نخرج منها أبدًا، وإنْ هدمتم سنبني وسنبقى صامدين".