فلسطين أون لاين

​"يوميات أُم"


كعادة الأمهات، تستيقظ ندى مع أذان الفجر الأول، تصلي ركعتي قيام، ثم تدعو وتبتهل إلى الله، وتصلي الفجر بعد أن يصدح أذانه، ثم تنطلق للأعمال والمسؤوليات اليومية الملقاة على عاتقها، والتي لا تنتهي.. وما إن استيقظ أبناؤها وانطلق كل منهم إلى شؤونه يرتبها قبل المدرسة، حتى دبت الخلافات بينهم.. وبدأت معها جرعة ندى اليومية الأولى من الضغط النفسي.. فالصغيرة جنى اعترضت على نوع الشطيرة التي أعدتها لها والدتها للروضة، فأخذت تصرخ وتبكي، وتلقي بحقيبتها أرضًا رافضة أن تحملها معها، أما منى فقد أغضبها مهند حين داس حذاءها بعد تنظيفه.. طاردته في أرجاء البيت حتى تمكنت من ضربه بقوة على ظهره، حتى لا يفكر مرة أخرى في الاقتراب منها وتحديها، أما ليلى فقد صرخت بأعلى صوتها: أمي.. أمي.. دعي عبد الرحمن يبتعد عني.. مللتُ من تعدياته على ممتلكاتي، يريد أن يأخذ مني علبة الألوان التي اشتريتها قبل أيام من مصروفي الخاص.

-عبد الرحمن، ابتعد عن أختك، وأعد لها علبة الألوان..

-المشكلة يا أمي أن لدي اليوم حصة رسم، وأنا محتاجٌ للعلبة؛ فمعظم الألوان لدي تالفة، ولا مجال الآن لأن أشتري علبة أخرى من المكتبة، حاولت إقناعها بأن تعيرني الألوان اليوم ولكنها ترفض، وأنا مضطر لأخذها حتى ولو بالقوة.

-وأنا أقول أعد العلبة لها.. لماذا لم تعد أغراضك أمس وتشتري ما تحتاج؟

انفردت بابنتها جانبًا وهمست في أذنها وأقنعتها بأن تعطيه الألوان، وأعطتها بالمقابل نقودًا لتشتري علبة أخرى؛ وقبل أن يخرج عبد الرحمن لمدرسته، طلبت ندى منه أن يحمل كيسًا كبيرًا يلقيه في حاوية القمامة؛ وما إن سمع طلبها حتى حمل حقيبته بسرعة وولى هاربًا وكأن في أذنيه صمم.. لم تنتبه إلا على صوت الباب يطرق خلفه بقوة.. غضبت بشدة وقبل أن ينطلق لسانها بالدعاء عليه، أخذت تقول في نفسها: "الله يهديك يا بني".. وأضافت: "المصيبة أنهم لا يعبؤون إلا بأنفسهم واحتياجاتهم، سيأتي عليهم يوم يدركون فيه معنى الأم، ويعلمون حينها كم كانت تتعب لأجلهم".

بصعوبةٍ أقنعت جنى بالخروج من البيت بعد أن أعادت لها ترتيب ملابسها، وغسلت وجهها.. دون أن تغير لها الشطيرة، فهي ترفض الانصياع لمزاج جنى المتقلب.

وقبل أن تتعدى الساعة السابعة والنصف، كان الجميع قد خرجوا من البيت، وبقيت وحدها بالمنزل، تتنقل من عمل إلى آخر، ما بين ترتيب وتنظيف وطبخ وغسل أطباق وملابس وري الأزهار وتحضير نوع من الحلوى.. إلخ من الأعمال اليومية، دون أن تأخذ قسطًا من الراحة.. حتى إفطارها تناولته على عجل بينما هي تطهو طعام الغداء؛ فلا وقت إضافي لديها لتهدره.

وما إن أصبحت الساعة الثانية عشرة حتى عاد أول الوفود أدراجه، لتبدأ جولة أخرى من الأعمال، ليس أولها مساعدة جنى في تبديل ملابسها وترتيبها، وتقديم طعام الغداء لأفراد العائلة، كما أنه ليس آخرها مساعدة من يحتاج من الأبناء في مراجعة دروسه، وحثهم على أداء الواجبات الكثيرة، والتأكد من مذاكرتهم لامتحاناتهم.. وفض الخلافات التي تتفجر كل حين لأسباب غاية في التفاهة، إلا أنها تشعل البيت ضجيجًا وفوضى وتُخِلّ بإتمام جميع المهام.

تستثمر ندى أوقات اجتماع الأسرة كأوقات تناول الطعام، للحديث لأبنائها وتوجيه بعض الأسئلة لهم ومناقشتهم في بعض الأمور.

ومع اقتراب الساعة الثامنة، يفرغ معظم الأبناء من أعباء الدراسة.. بينما تكون ندى مستنفدة، يخلدون هم للنوم وتذهب هي للاطمئنان عليهم، وإنهاء ما تبقى من مهام يجب إتمامها قبل أن تشعر جسدها بدفء الراحة فيتمرد عليها ويرفض الانصياع للمزيد من المسؤوليات والأعباء.. يجب أن تنهي كل شيء؛ فالغد يأتي حاملًا في ثناياه مسؤوليات وأعباء يوم جديد.