لم تزل ذكرى معارك "الفرقان" المجيدة تعيش معنا بحلوها ومرها، ونحن نقارب تلك الأيام الفارقة التي رسخت متغيرات تنبئ دون أدنى شك ببدء العد التنازلي لوجود هذا الكيان الاستيطاني الزائد بين ظهرانينا، وها نحن نعيش هذا النهوض العظيم لضفتنا الفلسطينية المحتلة، وهي تنتفض على محتليها وأدواتهم، فتخرج عن بكرة أبيها وهي تردد أن زمن الهزيمة قد ولى، وأن زمن المقاومة قد بدأ، زمن الظفر والتمكين، ولا رجعة عن ذلك، أيًّا كانت التضحيات.
ويتحد في هذه المسيرة المباركة الهادرة أبناء الوطن الواحد في فلسطين التي احتلها الصهاينة عام 1948.
المراسل المحلل العسكري في موقع "واللا" الصهيوني أمير بو خبوط يستخلص فيقول: "جيشنا المنتشر في الضفة غير قادر على السيطرة أو تهدئة الأوضاع"، وهذا الكاتب يعلم يقينًا أن الضفة الفلسطينية المحتلة قد شبت عن الطوق، ولم يعد جيش العدو المحتل أو أجهزة عباس الأمنية المتخابرة معه قادرين على احتوائها، أو وقف ثورتها الشعبية المتعاظمة.
أما فصائل المقاومة في القطاع المحاصر الصامد فهي تستعد للمواجهة، وتحفر في الصخر إعدادًا للمواجهة القادمة التي أضحى لا مفر منها، فقد آن أوان جز العشب وإلقام العدو حجرًا حتى ينكفئ في جحره من جديد، وحتى يحين الحين لسقوطه "العظيم".
نقول ذلك، ونحن نعيش زمن معارك "الفرقان"، التي امتدت حتى فجر الثامن عشر من شهر كانون الآخر من عام 2009، تلك المعارك المجيدة حين أثبتت المقاومة أنها عصية على الانكسار أو الترويض، وقد تمكنت برعاية الله وحفظه والتفاف الشعب المؤمن بنصر ربه من دحر كل المؤامرات والعدوانات التي حيكت بليل لاستهداف مقاومتنا ومقدساتنا وثوابتنا الوطنية.
معارك دموية، عنيفة وغادرة، تمتد اثني وعشرين يومًا، فيرتقي إلى العلا 1400 شهيدًا، كان منهم وفي مقدمتهم زين الفرسان الشهيد الشيخ سعيد صيام وزير الداخلية المقدام، وقد سبقه إلى جنات الخلد 300 شهيد من رجال وزارة الداخلية، ولم نزل نستذكر وجوههم الطيبة النيرة، وصرخات أطفالهم الذين يحملون اليوم أسلحتهم البتارة ويرابطون على الثغور، في تواصل للأجيال الرجال منذ أكثر من قرن من زمان التضحيات العظام وهم يحفرون عميقًا، ويعيدون أسفار البطولة على طريق وصايا الآباء الشهداء، أيقونات تزين الصدور والسماء، ذكرى الزكي العطر من الدماء لقائد الشرطة وقائد جهاز الحماية، وهما يستعرضان مواكب جنودهما الشهداء، وهم يتقدمان الصفوف، ثقة مطلقة بوعد الله أن لهم الجنة، وغدًا هم فيه أحياء يرزقون.
لقد انتوى العدو النازي منذ اللحظات الأولى لعدوانه الجبان في 27/12/2008 إحداث الصدمة بضرباته الصاعقة، وإحراز "الهزيمة الإدراكية" وكي التوازن وإعلان "النصر"، ووهم فرض رفع العلم الأبيض بإفقاد قيادة المقاومة والشعب زمام المبادرة والتوازن الإستراتيجي.
ولكن القيادة المؤمنة المحصنة، المقتدرة والمدركة عظم المسؤولية الملقاة على عاتقها/ والمعمدة بالدم والنار، والواثقة بنصر الله العزيز الجبار؛ تمتص الضربة الجوية الأولى، ومعها ارتداداتها المتصلة المتتالية الغادرة لأكثر من 80 طائرة F15 وF16، وفي لحظة واحدة على امتداد قطاع غزة من أقصاه إلى أقصاه، لتدمر المواقع الشرطية والعسكرية والوزارات والطرق الرئيسة والبنى التحتية الحيوية.
أيضًا قامت مرابض بطاريات مدفعيته الهاوتزر 175 والهاون ومدافع من أنواع وعيارات أخرى بالقصف المكثف، تشاركها منظومته الصاروخية ورشاشاته الثقيلة وبوارجه البحرية.
ولم يكتفِ العدو الصهيوني باستخدام أسلحته التقليدية المتطورة، بل استخدم مخزون مستودعاته من الأسلحة المحرمة دوليًّا، وقد أمطر القطاع بقنابله الارتجاجية والفراغية والعنقودية والفوسفورية والنابالم حتى قنابل اليورانيوم المنضب، وغزة تهتز ولا ترتجف، تأن بصمت ولا تصرخ، تعض على الجرح، تثبت، وترد، وتستعيد توازنها دفعة واحدة رغم الأرض المحروقة، وتقدم ألوية "النخبة" من (ناحال وغولاني وغفعاتي والمظليين والأركان والخاصة)، لتتسمر جميعًا وتغرق في الرمال المتحركة على مبعدة عشرات الأمتار من السلك الشائك الزائل.
بدأ كل ذاك الأتون تمام الساعة الحادية عشرة من صباح يوم قاسٍ استطال، ولكنه كان بشيرًا بوعد مع فجر آتٍ؛ فعزائم الرجال لم تنثنِ وهاماتهم لم تنحنِ ولن تنحني، وقد امتشقوا أسلحتهم واحتضنوها برفق وسلموا أرواحهم لبارئها وانتشروا في الأرض، فمخروا عباب الأنفاق، وقد اعتلوا صهوات راجماتهم فانطلقت كهزيم الرعد وداعبوا قناصاتهم، وكان لهم الصيد الوفير حين تحصنوا بالكورنيت والـ(آر. بي. جي) يصدحون زرافات ووحدانًا: "الله أكبر"، ويأتي رجع الصدى برد مزلزل بعد لحظات صمت حاسمة كانت بعمر الدنيا، يتقدمون ويضربون ويشتتون جمع قطعان وحدات جيشهم، ويعبثون بحسابات قادتهم العمياء الطائشة، وفي صميم أعماق مواقعهم التي "كانت" حصينة ينحرون أكثر من 50 ضابطًا وجنديًّا، ويتابعون رميهم، فيثخنون جراحهم بما يزيد على 411 من عديدهم المرتجف المندحر.
22 يومًا هزت العالم، دمدم فيها قادتهم بكل اللغات أنهم ذاهبون إلى غزة العزة لإسقاط حكومتها الشرعية وقائدها إسماعيل هنية، ولاستعادة جنديهم الرعديد الأسير غلعاد شاليط، ولإنهاء فصائل المقاومة وصواريخها، بل تجرأ إيهود أولمرت على القول إنه سيحتل غزة ويسلمها لحليفه صديقه الحميم المتخابر عباس.
وماذا كانت النتائج؟!
سقط أولمرت وذهب إلى مزبلة التاريخ، واندحر جنوده تحت دك نيران الصواريخ محتفية بهزيمتهم المدوية.
لقد سجلت معارك "الفرقان" محطة فارقة لبدء تآكل قدرات جيش الاحتلال الردعية، وبداية فرض توازن رعب ومراكمة نقاط قوة تضع الأساس الصلب للظفر القادم.