فلسطين أون لاين

تقرير "عيادة سجن الرملة"..  قبرُ الأسرى أحياءً

...
صور مستشفى الرملة .jpeg
غزة/ يحيى اليعقوبي:

مكان أشبه بـ"قبر"؛ لكن  الفرق هُنا أنَّ هناك روحًا ما زالت تنبض، في جسدٍ خائر لا يقوى على الحركة، إلا على كرسي متحرك، أما عن شكله فهو لا يعدو كونه أربع غرف متقابلة تحوي أسرة حديدية أو أسمنتية ليست طبية، السجان فيه هو نفسه الممرض، "حبة الأكامول" هي الوحيدة التي تسكن آهات وآلام الأسرى المصابين بأمراض: السرطان، والسكري، والضغط، والزائدة، والجلطة، وبتر الأطراف، أمراض تحتاج إلى رعاية خاصة، وعمليات وبروتوكولات علاجية وأدوية معينة، لكن الاحتلال يتعامل معهم وكأنهم مصابون بـ"أنفلونزا" عادية.

في هذا المكان الصغير الذي يسمى عنوة "عيادة" يُستقبل الأسرى المرضى والمصابون، لم يدخلها أسير إلا ازدادت حالته الصحية سوءًا، وكأن عيادة سجن الرملة مقبرة حقيقية للأحياء، كان آخر الشهداء فيها الأسير المريض سامي أبو دياك، وبسام السايح.

ويقع سجن الرملة في منتصف الطريق بين مدينتي الرملة واللد، وهو مجمعٌ أمني مترامي الأطراف شيده في عام 1934م الاحتلال البريطاني، ومحاط بسور مرتفع.

 

50 حبة دواء يومية .. لا تكفي لوقف أوجاع الأسير "رداد"

على أسرّة ما تسمى "العيادة" ينهش مرض السرطان جسد الأسير المريض معتصم رداد (38 عامًا)، الذي يتناول  50 حبة دواء يوميًّا وجرعة علاجية من الكيميائي كل شهرين، في حين يعاني تآكل أصابع قدميه.

دخل معتصم الأسر بحالة جيدة وبلا أمراض، لكن وضعه الآن مختلف تمامًا ومتدهور إلى أبعد الحدود، منذ 10 سنوات يأخذ فقط إبرة (ريميكاد) مرة شهريًّا لعلاج مرض السرطان، حينما يأخذها يبقى أربع ساعات بلا حركة، لا يستطيع تحريك قدمه اليسرى بسبب تلف الأعصاب فيها، إن دخل إلى دورة المياه (المرحاض) يستمر نحو ساعة، ويعاني نزف دم متواصلًا.
"ربما ينام ساعتين أو ثلاثة يوميًّا، على أي مكان يجلس يتوجع" بصوت مقهور، سبقه كلمات خوف على مصير رداد يتحدث عمر شقيقه لصحيفة "فلسطين" بذلك، وهو يرثي حاله؛ فوضعه جعل حياة عائلته غير "مريحة"، يتوقعون "انتكاسة" مفاجئة لحالته الصحية في أي وقت.

يقول: "قبل سنوات قال ممرضو الاحتلال بما تسمى "عيادة سجن الرملة" له إنهم سيزيلون له 80% من الأمعاء، وهم يماطلون في علاجه".

مواقف كثيرة شاهدة على سياسة الإهمال الطبي بحق معتصم، ينتقى شقيقه واحدًا منها: "نقل في إحدى المرات ثمانية أيام إلى مستشفى "مائير"، لم يراعوا مرضه، طوال تلك الأيام ظل مقيدًا بقدميه ويده، ومنعنا من زيارته".

"خايفين على حياته، وضعه ما بطمن، ممكن بأي لحظة يصير معه انتكاسة" بهذا يعرب رداد عن خوفه على مصير شقيقه.

ورداد يزجه الاحتلال في سجونه منذ 12 كانون الآخر (يناير) 2006م، ومحكوم عليه بالسجن الفعلي مدة 20 سنة.

 

الشهيد "أبو دياك" .. صورة الأشعة بعد فوات الأوان

- ابنك حالته خطرة، تعالي على "المشفى" عشان تشوفيه.

مكالمة هاتفية تصل إلى هاتف والدة سامي أبو دياك تثير عاصفة القلق في قلبها؛ تركت كل شيء بيدها وساقتها قدماها إلى ما سماه "المشفى"، وبعد أن طوت السيارة الطريق بسرعة، أوصلتها قدماها إلى الباب لتجد ابنها سامي على كرسي متحرك يلفظ أنفاسه الأخيرة.

الأم التي لم يسمح لها الاحتلال أن تلتقط صورة مع ابنها قبل ذلك، رأت بالموقف على قسوته فرصة لأخذ صورة وهي تحتضنه، وخرجت عن صمتها بعد أن مسحت دموعها: "ما بطلع من هان إلا لما باخد صورة مع ابني".

في 2002م أسر الاحتلال "أبو دياك" ولم يتجاوز من عمره 17 سنة، حكم عليه ثلاثة مؤبدات أمضى منها 18 عامًا، خمس سنوات منها يصارع الموت والمرض، منها سنتان فيما تسمى "عيادة سجن الرملة"، ليعلن استشهاده بعد يوم من تلك الصورة التي جمعته بأمه في تشرين الآخر (نوفمبر) 2019م.

وكأنه رحل بالأمس، في صوتها مائة حكاية من الألم، ترحل إلى يوم لم تنس تفاصيله: "قبل خمسة أعوام أصيب بمرض السرطان، وكان وزنه 90 كغم، ونقل من سجن ريمون إلى المشفى، قبل إصابته بيوم كنت في زيارة إليه، وكانت حالته جيدة، حتى إنني لما عدت للمنزل اتصل يتحقق أنني وصلت".

لكن بعدها بثلاث ساعات تلقت الأم اتصالًا من داخل الأسر يخبرها المتصل: "ابنك تعبان".

بعد فوات الأوان، أتي دور سامي في أخذ صورة أشعة رنين مغناطيسي، أظهرت وجود أربعين كتلة سرطانية ببطنه، تخرج الأم عن صوتها الهادئ، بدت غاضبة: "تركوه يموت؛ وتأكله الخلايا السرطانية، حتى استشهد (...) هكذا يفعلون مع الأسرى، يتركون المرض ينهش أجسادهم، حتى إن جسده لم يعد يتحمل جرعات الكيميائي".

 

من آثار القمع بالغاز .. الأسير "التاج" زرع قلبًا ورئتين

وهو على مشارف الموت؛ تحرر، وهو بحاجة لزراعة قلب ورئتين، بعدما أدرك الاحتلال أن أيامه باتت معدودة، كان يدرك أن الأسير محمد التاج من طوباس لن يعيش طويلًا، فهذا النوع من العمليات صعب حتى في الدول المتقدمة.

 أُفرج عن هذا الأسير سنة 2013م، وهو غائب عن الوعي، لا يعرف أنه خارج السجن، بعدما أمضى 13 سنة فيه، رفضت استقباله مستشفيات دول أوربية بدواع أمنية مزعومة، فاستقبلته الهند وهناك زرع قلبًا ورئتين وكأنه "ولد من جديد".

"كانت بداية المرض عام 2004م، في سجن "جلبوع"، بعد تعريضنا لغاز مسيل للدموع داخل غرفة شديدة الحرارة، لا يوجد بها تهوية، وقمعونا بالعصي، وشبحونا ساعات طويلة تحت أشعة الشمس، وعانيت ضيقًا في التنفس في إثر الغاز والتهابًا، لم تشخص حالتي، وأعطيت حبة "أكامول"، لكن الوضع بدأ يتفاقم" هكذا بدأت معاناته كما يتحدث لصحيفة "فلسطين".

على مدار 10 سنوات، لم يحصل التاج على أي علاج إلا تحت الضغط والمماطلة، "في إحدى المرات أخذت لي صورة أشعة وأظهرت وجود التهابات، لكن لم أتلق العلاج وتحول إلى تليف بالرئتين"، وتغير مسار حياته، يقول: "كنت أرى الأسرى يتألمون طوال الوقت مثل الأسير خالد الشاويش الذي يضرب نفسه ويقاتل لأجل حبة "الأكامول"، ولا أجد غير الأكسجين".

هذه الآلام حرمت أسرى كثيرين الزيارة بسبب عدم قدرتهم على الذهاب إلى قاعة الزيارة، وإن استطاعوا الذهاب إليها كانوا يُنقلون مُقيّدين، حتى إن الأسير الشاويش كان يجر كرسيّه المتحرك بصعوبة ويدير ظهره لوالدته حتى لا يبكي أمامها.

وكانت إدارة سجون الاحتلال "تعاقبهم" في العلاج، "وكما حدث معي زرعت قلبًا ورئتين بسبب الإهمال، كانت حياتي قبل الزراعة أشبه بموت سريري، طوال الوقت كنت على كرسي متحرك، واستمر الأمر عامين حتى قبلت الهند علاجي".

الخدمات الطبية شبه "معدومة"

يصف رئيس هيئة الأسرى والمحررين قدري أبو بكر سجن الرملة بمقبرة الأحياء، وأن الخدمات الطبية فيه شبه معدومة أدت إلى استشهاد عدد من الأسرى.

يضيف أبو بكر لصحيفة "فلسطين": "سجن الرملة يضم نحو 17 أسيرًا مريضًا مقعدين على كراس متحركة، منهم مرضى سرطان، ومرضى يتلقون علاجًا كيميائيًّا".

ويبين أن هناك مطالبات فلسطينية لمنظمة الصحة العالمية بإرسال وفد لزيارة ما تسمى "عيادة سجن الرملة"، وأن كثيرًا من الشهادات قدمت عن وضع الأسرى المرضى، وهناك مطالبات بإرسال لجنة تقصي حقائق.

وتفيد منسقة وحدة الدراسات والتوثيق في مؤسسة الضمير لحقوق الإنسان احترام غزاونة أن لسياسة الإهمال الطبي أشكالًا متعددة، أولها أن الطاقم الطبي غير متخصص، وأن الاحتلال لا يسمح لطواقم حقوق الإنسان بالدخول إلى داخل العيادة.

وتقول غزاونة لصحيفة "فلسطين": "إننا نتحدث عن أسرى مرضى يعانون أورامًا خبيثة، لا يقدم الاحتلال لهم علاجًا كاملًا، يوجد بالعيادة الحد الأدنى من المعدات، والأدوية، لا يوجد "فورة" (ساحة) تناسب وضعهم، والمطبخ بداخل الغرف، ولا توجد فحوصات دورية".

وتبين أن عدد الأسرى المرضى نحو 750، وعدد الأسرى الشهداء قرابة 224 أسيرًا، منهم 70 شهيدًا نتيجة الإهمال الطبي، 5 منهم استشهدوا سنة 2019م، منهم سامي أبو دياك وبسام السائح اللذان استشهدا بعيادة سجن الرملة.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المصدر / فلسطين أون لاين